لم يكن خطاب الرئيس الفرنسي ​إيمانويل ماكرون​ على قدر طموح غالبية الفرنسيين، التوّاقين الى تحقيق عدالة إجتماعية، تغيّر الصفة التي تمّ إطلاقها على رئيسهم الشاب: رئيس الأثرياء.

تراجع ماكرون في موضوع الضرائب، وقدّم للمحتجّين رشى مالية، لكنها محدودة القيمة نسبة الى حجم المطالب التي رفع المحتجّون شعاراتها. لا يوجد نقابات هذه المرة تلعب دور الوسيط بين العمّال والسلطة، أو تضبط خطوات المتظاهرين، أو تحدّد أطر الحراك الشعبي، أو تتفاوض مع الحكومة، فتوافق أو ترفض ما طرحه الرئيس في خطابه. الفرنسيون كباقي شعوب العالم يريدون من دولتهم ما هو أعمق: تعديلات جوهرية لا تتعلق بإلغاء أو تعديل ضرائب، بل يسعون لفرض تغييرات تطال سبل الحُكم، وطرق ممارسة السلطة من قبل الأحزاب التقليدية والمؤسسات العميقة للدول. لم يعد المواطنون في كل دول العالم يرغبون بالمضي في لعبة الأحزاب التقليدية وتلك المؤسسات العميقة. يريدون التغيير، ولا يخشون ثورات مفتوحة، بل يتصرفون بحسب قاعدة: أنا الغريق وما خوفي من البَلَلِ.

فالأجيال الصاعدة تجري الإنقلابات على النُظم، وخصوصا التي تتحكم فيها كارتيلات إقتصاديّة. ولم تعد تلك الأجيال قادرة على ممارسة الصبر وضبط النفس، تساعدها التكنولوجيا في ممارسة التواصل الاجتماعي-الذي يحرّك، ويوجّه، وينقل الهموم المشتركة في صفوف الناشطين، التي تحملهم الى الشارع، وتمنعهم من الموافقة على رشى ماكرون. لأن ما يريدونه أعمق بكثير، خصوصا ان انتخاب ماكرون الشاب نفسه رئيسا ل​فرنسا​، جاء نتيجة ذات المعايير في الرغبة بالتغيير وقلب طاولة النُظم العميقة التي تتحكم بلعبة السلطة.

ما يحصل في فرنسا، يمكن أن يتكرر في كل عاصمة أوروبية وغير اوروبية، يزيد من احتمالات تكراره، الواقع الإقتصادي المأزوم على مساحات العالم.

وفي ​لبنان​، الأزمة الإقتصادية موجودة، لكنها مضبوطة حتى الساعة. لا زال لبنان يعوّل على نتائج مؤتمر "سيدر" لرفده بسيولة مالية، رغم الخشية من تفكك تلك النتائج نتيجة اوضاع الدولة الفرنسية الراعية حالياً.

المهم بالدرجة الأولى، هو تأليف الحكومة اللبنانية، التي تشكّل مدخلاً للولوج نحو مساحة الحل الموعود. ومن هنا يأتي الدفع الشعبي ل​تشكيل الحكومة​. لكن هل يصطدم اللبنانيون بواقع مؤلم، لا يمكن أن تعالجه الحكومة العتيدة لاحقاً؟.

يتحرك رئيس الجمهورية ​ميشال عون​ مجدداً، لفرض بداية الخروج من المأزق. لقد مضى سنتان من عهده "القوي". فلا بد من تحقيق انجازات نوعية. من خلال حراكه الآن، يلبّي ما يريده الشعب اللبناني، متجاوزاً شكليات تأليف الحكومات، بعدما تم الوصول الى حائط مسدود، إقتضى التحرك.

لكن ماذا عن جوهر طرح الرئيس عون بشأن الحكومة؟ لم يحدد إطار المعالجة، رغم أن قوى سياسية تشير صراحة الى ان الحل الوحيد في عملية التأليف يكمن في "تنازل فخامة الرئيس عن مقعد وزاري لصالح النواّب السنّة الستّة". لا تجد تلك القوى طروحات أجدى، ولا أفعل، ولا افكار متوافرة للحل، بعدما سقطت كل الصيَغ الاخرى. هنا يبدو الحل في يد رئيس الجمهورية وحده. صار الشعب يعرف أن المخرج الحكومي في بعبدا. فلا ضغوط رئيس الجمهورية، عبر رسالة يبعث بها الى المجلس النيابي، أو عبر خطاب يوجهه الى الشعب اللبناني، ولا محاولته حثّ القوى على التنازل، ولا البحث في سيناريوهات اسقاط التكليف بغاية تسهيل التأليف، جميعها لا تنفع الآن. اللبنانيون ينتظرون حلاّ سريعاً وجوهريا، يُكسب رئيس الجمهورية تأييداً شعبيا واسعا. فالرئيس عون ابدى خلال اجتماعه برئيس المجلس النيابي ​نبيه بري​ والمكلّف تأليف الحكومة ​سعد الحريري​ النيّة الإيجابية والرغبة الصادقة بالحلّ. وهو إستمع الى ما يوجد بحوزة الرجلين، فقدّم له بري رؤيته وأفكاره، كي يستعين بها في حال لم يتم التفاهم على التشكيلة بين رئيسي الجمهورية والحكومة.

إذا كان الرئيس الفرنسي قدّم خطاباً بمضمون بنّاء، وإعتبره أهل السياسة تراجعاً غير مضمون الفاعليّة الجماهيريّة، فلم يرتقِ الى مستوى الحل الجوهري للأزمة في بلاده، فهل يشكّل طرح رئيس الجمهورية اللبنانية مفاجأة جريئة، بتقديمه الحل الذي يضعه اللبنانيون في خانة الشجاعة وليس التراجع.

ما قاله ماكرون للفرنسيين كان تراجعاً، وليس حلاً، بينما يريد اللبنانيون من رئيسهم ان يقدّم حلاً منقذاً، فلا يمكن حينها اعتباره تراجعاً. فلننتظر.