لفت البطريرك الماروني الكاردينال مار بشاره بطرس ​الراعي​ خلال استقباله ​القضاة​ والموظفين القضائيين، في بداية ​السنة​ القضائية في المحاكم المارونية، في حضور المطارنة ​حنا علوان​، ​الياس سليمان​ ورفيق الورشا إلى انه "يسعدني أن أفتتح معكم السنة القضائية 2018 - 2019، ونحن على مشارف ​عيد الميلاد​ المجيد. فيطيب لي أن أبادلكم التهاني المخلصة التي أعرب عنها بإسمكم حضرة المونسنيور ​نبيه معوض​ النائب القضائي على محكمتنا الإبتدائية الموحدة. فأتمناه لكم عيدا سعيدا مليئا بالخير والنعم، كما أهنئكم بالسنة ​الجديدة​ 2019 التي نرجوها سنة سلام لوطننا الحبيب ​لبنان​ ولبلدان ​الشرق الأوسط​، بل للعالم. وإني أشكركم على خدمة ​القضاء​ بإسم الكنيسة بإشراف وسهر إخواني السادة المطارنة: المطران الياس سليمان رئيس محكمتنا البطريركية الاستئنافية، والمطران حنا علوان المشرف على محكمتنا الابتدائية الموحدة، و​المطران مارون العمار​ المشرف العام على توزيع العدالة وإن وجود ثلاثة مطارنة في محاكمنا فمن أجل ضمانة الخدمة الصافية للعدالة، وإنصاف المتداعين في ​حالات​ الظلم، وسماع شكواهم بتفهم وسعة صدر".

وأشار إلى أن "تكلم المونسنيور نبيه عن قيمة ​الزواج​ كسر ومكان السعادة والحب، وعن انتهاك هذه القيمة بمختلف الأسباب، كما تظهر في الدعاوى الزواجية. فأشكره على هذه الكلمة التي تفسح في المجال للكلام عن قدسية الزواج، وخطورة الحكم بصحته أو عدمها في محاكمنا، وعن مهابة القضاء والقضاة وسائر الموظفين القضائيين"، لافتاً إلى أنه "في مقاربة الدعاوى الزواجية، يجب ألا يغيب عن بال القضاة ومحامي الوثاق أنهم أمام مسؤولية زواج هو "عهد حب بين الزوجين وسر مقدس"، قبل النظر في صحة العقد أو عدمها. إن مجموعة قوانين الكنائس الشرقية تنص على أن الزواج "عهد" أسسه الخالق ونظمه بشرائع (راجع القانون 776). وبهذه الصفة له طابع قدسي، لكونه على صورة "عهد الله مع شعبه". ولذا هو عهد مثلث الأبعاد: عهد عامودي مع الله الذي أسس الزواج ونظمه. فلا يخضع في جوهره لإرادة الزوجين، بل هما خادمان يخضعان له. وهو عهد أفقي بين الزوجين يلتزم به كل واحد منهما بإسعاد الآخر وتأمين خيره، إذ يشكلان معا جماعة حب وحياة. وهو عهد إنحداري مع الأولاد لجهة واجب إنجابهم وتربيتهم، والحفاظ على الإرث الوالدي والعائلي المنقول من جيل إلى جيل. ولذلك تنص القوانين الكنسية على أن للزواج ميزات أساسية هي الوحدة والأمانة أي الإستئثارية والديمومة أي عدم الانفصام، وأن له غايات جوهرية هي خير الزوجين و خير الأولاد (ق 776)".

وأضاف: "إن عهد الزواج هذا قدسه ​السيد المسيح​ بتجسده في عائلة، ورفعه إلى رتبة سر لكي يكون أداة ​تقديس​ وخلاص للزوجين وللأولاد بالنعمة الإلهية التي تفاض عليهم، ولكي يرمم الزوجان المؤمنان النظام الذي أراده الله الخالق، لحفظ كرامة الزواج وقدسيته"، مشيراً إلى أن "عهد الحب من جهة الزوجين، ونعمة السر من جهة الله، يتحققان في عقد قانوني قائم على الرضى المتبادل بين الزوجين، بوعي ومسؤولية وإدراك، ومكون من عناصر العقد الأساسية، وهي: الأهلية الخالية من أي مانع مبطل، وسلامة الرضى من أي عيب جوهري، والصيغة القانونية التي يتم فيها تبادل الرضى. إن القوانين الكنسية تنص عليها كلها بوضوع وصحيح أن الزواج سر عندما يكون العقد صحيحا، فيصح هنا قول الرب يسوع: "ما جمعه الله لا يفرقه إنسان" (متى 3:19). ولكن الزواج ينعم بحماية الشرع. ولذا، في حالة الشك يعتبر صحيحا حتى إثبات العكس" (ق 779). وإن ثبت بطلانه، يمكن بل من الأفضل تصحيحه بموجب القوانين (843-852). في كل حال يبقى على القاضي أن يحاول مصالحة الزوجين مباشرة أو بواسطة "مكتب الإصغاء والمصالحة" في المحكمة، ولاسيما لجهة الاتفاق الحبي على النفقة وحراسة الأولاد ومشاهدتهم، بدون اللجوء إلى قرارات بغيضة تترك أثرها السلبي على الأولاد".

واعتبر البطريرك الراعي أنه "من المؤسف أن القانون 818 الذي ينص على حالات عدم القدرة على عقد زواج صحيح، قد فتح بابا واسعا أمام دعاوى بطلان الزواج، وأصبح السبب للغالبية الساحقة من الدعاوى التي تنتهي بإعلان بطلان الزواج، كما يتبين من التقارير السنوية التي تصل إلى سينودس أساقفة كنيستنا"، مشيراً إلى ان "الأسباب الثلاثة التي يحددها القانون 818 هي حالات شاذة ومرضية معروفة طبيا بحيث أنها تشكل إما نقصا في الاستعمال الكافي للعقل (الحالة الأولى)، وإما نقصا في الحكم الصائب وفي إدراك الحقوق والواجبات الزوجية (الحالة الثانية)، وإما نقصا في تحمل موجبات الزواج الأساسية لأسباب ذات طبيعة نفسانية (الحالة الثالثة). وهذه كلها تتعلق بوجوب سلامة المعرفة، وحرية الإرادة في الخيار والتقرير، وواجب الالتزام بالحقوق والواجبات، لكي يكون الرضى الزوجي المتبادل فعل إرادة حرة وواعية ومدركة وملتزمة، عند عقد الزواج. ولذا يجب التمييز بين كينونة الزواج الحاصل، وحسن عيش الكينونة في واقع ​الحياة​ اليومية. إن دعاوى إعلان بطلان الزواج تدور حول كينونة الزواج الحاصل ساعة انعقاده".

وتابع: "يحتاج القاضي في هذه الدعاوى إلى خبرة طبيب نفساني متحل بروح المسؤولية والتجرد وأخلاقية الوظيفة والالتزام المسيحي. لكنه يحجم عن تعيين خبير، إذا تبين له من المعطيات المتوفرة أن تعيينه غير مفيد، كما ينص القانون 1366، إما لأن الوثائق المتوفرة في أعمال الدعوى تثبت الحالة المشكو منها، وإما لأن لا شيء في أعمال الدعوى يدل على وجود هذه الحالة. فلا يجوز إرهاق المتداعين بالخبرة وكلفتها من دون داع ضروري. فإجراء الخبرة بحد ذاتها بغيض ومن واجبات القاضي ومحامي الوثاق تحديد النقاط المطلوب من الخبير الاختصاصي الإجابة عليها، بحيث تتمحور حول الحالة النفسية المشكو منها وطبيعة الانحراف أو الشذوذ، وتأثيرها على العقل والإرادة، وزمن نشأة المرض، وتقييم درجة شدته التي تفسد أو تعطل القدرة النفسية على منح رضى صحيح.لا يحق للخبير إطلاق حكم أو رأي بشأن صحة الزواج أو عدمه، لأنه بذلك يتخطى حدود صلاحياته، أما القاضي، من جهته، فعليه أن يقيم الخبرة التي هي عنصر يضاف إلى البراهين والبينات. فلكي يصدر حكمه، بموجب القانون 1291، يشترط أن يتكون لديه اليقين الأدبي حول القضية المطروحة من جميع أعمال الدعوى وبيناتها وهذا الواجب مطلوب ليس فقط من القاضي المنفرد، ومن المقرر في المحكمة المجلسية، بل ومن القاضيين الآخرين في الهيئة الحاكمة، كما يوجب القانون 1292 عند عقد جلسة المذاكرة. وهذا ما نطالب به باستمرار، لتكون للحكم المرتكز على ثلاثة آراء قيمة علمية وقانونية".