حين تحضّر كافة المرجعيات السياسية «الرئاسية» كؤوس «المغلي» إيذاناً بالولادة الحكومية الوشيكة، ثم تتفرمل جهود التأليف بعد 7 أشهر بالتمام والكمال من تكليف الرئيس ​سعد الحريري​ تخلّلها، وصول «لقمة» الحكومة أكثر من مرّة الى الفمّ ثم انتزاعها مجدّداً، يُصبِح مشروعاً السؤال: العهد نفسه الى أين وليس فقط الحكومة؟

لم يعد لأسباب سقوط التسوية و«تطيير» جواد عدرا وجنوح الرئيس المكلّف نحو الصمت المطبق وتلويح رئيس الجمهورية ​ميشال عون​ بـ«الإنقلاب» على الأعراف أهمية تُذكر، أمام تداعيات سقوط هذه التسوية ونتائجها على مصير الحكومة المنتظرة، وإدارة العهد نفسه لأزمات تكاد تبتلع الجميع.

في المبدأ، لا حلّ حكومياً لمعضلة النواب السنّة الستة المستقلين، إستناداً الى «اختبار عدرا»، إلاّ على قاعدة واضحة: ممثل عن «اللقاء التشاوري» داخل الحكومة لا يجلس على طاولة الوزير ​جبران باسيل​ ولا يأتمر بتوجيهاته، وهذا يعني إستطراداً إقتطاع وزير من الحصّة «المُفترضة» لرئيس الجمهورية! يحصل هذا فيما الحريري ينأى بنفسه تماماً عن مواجهة فُتحت بالمباشر بين «التيار الوطني الحر» و»حزب الله» بعدما كانت بين الأخير وبينه.

هكذا، لم يعد جائزاً التساؤل عن مصير الحكومة و«مناعة» العهد حيال العِقد المتراكمة، والتي بالتأكيد لن تجدّ حلاً لها بمجرد صدور مراسيم الحكومة، ما لم تقدّم الأجوبة الشافية عن مدى قدرة «تفاهم 6 شباط» على احتواء «موجات» التوتر السياسي بين الحليفين، خصوصاً أنّ ثمّة جهات عدّة، والقصر الجمهوري منها، تيقّنت منذ خطاب السيد ​حسن نصرالله​ في 10 تشرين الثاني الفائت، المؤيّد لتوزير حلفائه، «بأي ثمن»، أنّ الرسالة العالية اللهجة استهدفت بعبدا قبل «بيت الوسط» في إعتبار أنّ تنازل الحريري عن وزير سنّي لـ«حزب الله» ليس سوى انتحار «سياسي» له!

إستعادة شريط الانتصارات والانتكاسات لـ»تفاهم مار مخايل» قد يقدّم صورة عن مدى صلابة هذا التحالف، أقلّه طالما أنّ عون هو رئيس الجمهورية:

في ذكرى مرور العام الاول على توقيع الوثيقة الثنائية، كانت المرة الاولى والأخيرة التي يُصدر فيها عون ونصرالله بياناً مشتركاً، أتى بمثابة تتويج للقطوع المصيري الذي مرّ به «التفاهم»: ​حرب تموز​. تأكيد «على النموذج الوطني في التلاقي الطوعي بين جماعات سياسية متنوعة» وعلى «صلابة الخيار»، كما ورد في البيان.

في 6 شباط المقبل سيحتفي الحليفان بالذكرى 13 لـ«تفاهم» بات اليوم فيه بند المقاومة تحديداً، عُرضة لـ قنص» متبادل بين الطرفين: أهل «التيار البرتقالي» يمنّنون «حزب الله» بالوقوف الى جانبه في «حرب تموز»، ومؤيّدو «السيد» يسألون باسيل: «وهل كان لديك خيار آخر غير الوقوف الى جانبنا في وجه إسرائيل»!؟

في ذكرى العامين، طلّة إعلامية مشتركة غير مسبوقة على شاشة المحطة البرتقالية، بإدارة ​جان عزيز​ المستشار السابق لعون. قال السيد حسن نصرالله عن عون إنّه «شخصية صادقة. مشكلته أنّه وطني وطني وطني». وقال عون عن نصرالله «أقدّر فيه القدرة والشجاعة والقيادة».

في السنوات التي تلت، بدت فيها الورقة عصيّة على اكثر من مطبّ، كاد يحوّلها مخطوطة أرشيفية في جارور الشامتين، وإن تسلّل الفتور والتوتر أكثر من مرة الى غرف أهل «التفاهم».

في الإنجاز الأول للوثيقة ما تجاوز توقعات عون ونصرالله شخصياً في المدى الذي يمكن ان يذهب اليه جمهورهما في تشرّب خميرة هذا التلاقي، تحديداً الجمهور العوني والالتزام الإستراتيجي مع الحزب. يكفي توقيع عون على بياض خيار «حزب الله» في نقل معركة الوجود الى داخل ​الاراضي السورية​، وقبل ذلك استيعاب «زلزال» حرب تموز وأحداث 7 أيار.

وحتى قبل وقت قصير، بدا «العونيون» من الأكثر خبرة في المحاضرة عن إستراتيجية المقاومة و»النزاع مع العدو الاسرائيلي»، وخطابات باسيل في المنتديات الدولية لاقت إعجاب جمهور المقاومة وقياداتها. «جنرالهم» ذهب أبعد من ذلك في تكريس نظرية التكامل الوجودي مع الحزب، غير آبه بكل من عايره بكون «تياره» صار فرعاً لـ«حزب الله» على الساحة المسيحية!

في المقابل، يؤكّد كثيرون أنّ سقوط الحزب في ردّ الجميل لحليفه «التاريخي» عند اول مفترق رئاسي عام 2008، حين سحب ملعقة «الفخامة» من فمّ «جنرال المقاومة»، كلّفه انتظار 6 سنوات ليرفع لاحقاً المتاريس في وجه حلفائه قبل أي أحد آخر، ضد كل من فاوض على خيار رئاسي آخر طالما حليفه تمسّك حتى آخر رمق برئاسة الجمهورية. في أروقة الحزب الداخلية تردّدت مقولة «يستحيل ان نرتكب هذا الخطأ مرتين».

في المحصلة، تجاوزت «وثيقة مار مخايل» أكثر من لغم. عند كل قطوع كان يُسمع «الكلام الكبير» في كواليس الطرفين، لكن القرار على مستوى الرأس كان أكثر صلابة من «مغريات» الفراق.

بدا أنّ هامش «الإجتهاد» لدى الطرفين، في بعض الملفات الداخلية، لم يكن ليؤثّر على مناعة التحالف. حصل هذا الأمر في التمديد المتكرّر لمجلس النواب، وفي التمديد المتكرّر لقائد الجيش السابق العماد ​جان قهوجي​، وأزمة ​مياومي الكهرباء​، والعلاقة المضطربة مع رئيس مجلس النواب ​نبيه بري​ وزعيم تيار «المردة» ​سليمان فرنجية​ وملفات عدّة مطروحة على طاولة مجلس الوزراء منها ​ملف النفط​... حتى في ​الانتخابات النيابية​ الماضية، ضغط الطرفان على قواعدهما منعاً لنشر الغسيل فوق السطوح، بعد أن ساهم ترشيح ​حسين زعيتر​ من جانب الحزب في جبيل وترشيحات باسيل في ​بعلبك الهرمل​ في دق الأسفين بين جمهور الحزبين.

أما اليوم، فإبراز «الفَضل» العوني على «المقاومة» يساوي في أهميته تركيز «التيار» على جملة «أفضَاله» على «المردة» و«القوات اللبنانية» وأعضاء «اللقاء التشاوري» الذين «لم يحلموا بأن يصبحوا نواباً لولا «قانون جبران» النسبي، وحتى الحريري الذي «أنقذته ​التسوية الرئاسية​ والانتفاضة ضد الاستقالة»... عند هذا الحدّ، يبدو التراشق الإعلامي إنعكاساً لأزمة أكبر: فقدان الثقة المتبادلة.

مع ذلك، في محيط الحزب من لا يزال يَفصل فصلاً تاماً بين عون وجبران، مع دعوة مباشرة الى تحييد الأول وتجنّب تخطي الخطوط الحمر مع الثاني، من دون أن يقول السيد نصرالله كلمته حتى الآن في «هل ما قدّمه «حزب الله» لميشال عون سيجيّر لجبران باسيل؟».

أما في المحيط العوني فتساؤلات جدّية، سبق أن طُرحت سابقاً في السر واليوم تأخذ طريقها الى العلن: هل «حزب الله» معنا أم ضدنا»؟. لا يكتمل المشهد، وفق هؤلاء، سوى بالترجمة الفورية لإعلان عون قبل أيام عمّن يريد خلق أعراف جديدة بالقول: «هل يريدون الرئيس القوي مجرّد ديكور يتفرّج على من يختار له وزراءه وحقائب فريقه في الحكومة ويُلزمه بما هو أقلّ من حجمه التمثيلي».