لم تكن التجاذبات والاشتباكات التي سبقت ​القمة العربية​ في ​بيروت​ ورافقتها خلال انعقادها لم تكن هذه الاشتباكات من الحجم والمستوى البسيط العادي بل كانت في بعض وجوها عميقة جدية تؤكد حالة الانقسام الداخلي اللبناني والعربي الإقليمي وصولا الى الدولي حول مسائل كبرى، يحاول البعض الباسها اقنعة او التلطي وراء اقنعة تحجبها.

لقد ظهر ان محاصرة قمة العربية في بيروت جاءت من الداخل والخارج معا، حصارا رغب البعض بان يكون حصارا للعماد عون ولعهده، وشاء البعض الاخر بان يكون حصارا للبنان الذي يحتضن المقاومة او الذي يمتنع عن السير بإملاءات خارجية تحاصر المقاومة او تعزل لبنان عن سورية او تجعله طرفا في الاشتباك العربي بين المحاور الخليجية التي تريد ان تتمدد لتكون محاور إقليمية برعاية غربية واضحة.

لكن لبنان وبقيادة من العماد عون شخصيا وبدعم مباشر او خفي من قوى وطنية وإقليمية، رفض الانصياع للإملاءات واختط لنفسه سياسة خارجية مضمونها الأساسي: كيف يحمي نفسه ويحفظ حقوقه أولا ثم كيف يحفظ حقوق الاخرين وعلاقاته وصداقته الاستراتيجية معهم دون ان يتسبب ذلك في عداء او قطيعة مع الاخرين.

لم تكن مهمة لبنان سهلة، فقد كانت بصعوبة من يريد ان يجمع الجمر والماء في اناء واحد ويحفظ النار دون ان تنطفئ كما يحفظا الماء دون ان تتبخر، أي ان لبنان كان يعرف ان المهمة هذه هي في الحقيقية مهمة شبه مستحيلة ان لم نقل انها مستحيلة بالمطلق ومع ذلك قبل لبنان ورئيسه العماد عون التحدي وسار في الاعداد للقمة تحت شعار قمة حتى بدون رؤوساء او ملوك وامراء ، قمة بمن حضر مهما كان عدد الحاضرين ومهما كان مستواهم الوظيفي في بلدانهم لان لبنان فهم من الحصار و التضييق ان النجاح هنا يتمثل بالانعقاد بذاته قبل أي امر اخر .

وهنا لا بد من التذكير بانه عندما استحصل لبنان على موافقة عربية باستضافة القمة، لم يكن بهوية او مواقف غير التي له اليوم، وبالتالي ان ذرائع الباحثين عن سبب لتعطيل القمة كلها مردودة عليهم فكل ما يحاولون تسويقه من حجج انما كان قائما قبل عرض الاستضافة وقبل قرار الموافقة العربية عليها، فلماذا اذن هذا الانقلاب على القمة وحشد الأسلحة لنحرها وتاليا الإساءة الى لبنان والاضرار به؟

ومن جهة أخرى نسأل هل ان طاقات المعرقلين اختصرت في الحجم الذي مارسوه ضد القمة؟ ام إن هناك محاذير خشيها هؤلاء فامتنعوا عن الذهاب الى ابعد مما اذهبوا اليه في التقزيم والعرقلة والإفشال؟ فلماذا عرقلوا ولماذا امتنعوا عن الذهاب الى الابعد؟

اما عن العرقلة والتحجيم فاننا نرى ان أسبابه تعود الى رغبة أميركية خليجية بالضغط على لبنان ليراجع سياسته تجاه المقاومة وتجاه سورية وان يلتزم بإملاءات "الناي بالنفس" الخادعة التي تترجم حقيقة عداء ضد سورية والتحاقا بالمحاور الأخرى التي عملت وتعمل ضد المقاومة ومحور المقاومة. وبالتالي كان مستوى الحضور والتراجع الدراماتيكي عن الوعود بحضور هذا الرئيس او الأمير او ذاك غايته القول بان على لبنان ان " يراجع سياسته ويحسن سلوكه " حتى يستحق التفافا عربيا بمستوى القمة حوله والا فانه "لن ينال هذا الشرف " فالعرب لا يستسيغون لبنان العنفوان و المقاومة ، ولا يتقبلون بسهولة لبنان المنتصر على ​إسرائيل​ .

اما عن الامتناع عن الذهاب الى الابعد وصولا الى حد تطيير القمة او تأجيلها، او افشالها كليا، فان سببه عائد الى ان ذلك لو حصل سيصيب ​الجامعة العربية​ ذاتها قبل ان يصيب لبنان، فالجامعة هي التي دعت والجامعة هي التي قررت ولبنان يتفضل على الجامعة بالضيافة والاستضافة. والجامعة اليوم تحت تأثير ضغط القوى الخاضعة

للقرار الأميركي و​اميركا​ بحاجة اليوم على الإبقاء ولو نظريا على ورقة هذه الجامعة حتى تعود الى استعمالها عند الحاجة.

ومن جهة أخرى يعلم الجميع ان الذهاب الى الابعد قد يدفع العماد عون وهو رجل كلمة وقرار وموقف ورجل شجاعة ورأي معا، يدفعه للذهاب الى الابعد أيضا وبإمكانه ان يفعل سواء على الصعيد الداخلي او الصعيد الخارجي الإقليمي وليس من مصلحة هؤلاء دفع العماد عون الى مواقف لا تريحهم وهذا لا يعني ان العماد لن يقدم الان، وفي ظل ما حصل من تضييق، على اتخاذ قرارات من هذا القبيل تشمل العلاقة مع سورية ومسالة ​تشكيل الحكومة​ وسواها مما قد يجد الرئيس مصلحة وطنيه وصيغة انتقامية في اتخاذه.

اما عن حصيلة المواجهة حول القمة وفيها وبدون غوص في القرارات ال 29 التي اتخذت والتي وفقا لما نعتقد لن تكون أحسن حالا من قرارات سبقتها في القمم العربية السالفة التي بقيت حبرا على ورق فان اهم ما يعنينا من امر القمة وما أحاط بها ما يلي:

* ان مجرد انعقادها في لظروف التي سادت، كان فيها تحدي ربحه لبنان، صحيح ان التأجيل بسبب غياب سورية كان مفيدا في وجه من الوجوه (وكان موقفنا واضح بهذا الصدد) لكن الانعقاد مع تمسك لبنان بوجوب عودة سورية وكشف هزالة المواقف العربية من المسالة كان له قيمة سياسية يبنى عليها لاحقا ويشكل نجاحا للبنان في هذا المجال.

* معالجة مسالة ​النزوح السوري​ وضرورة العودة الامنة دونما ربط بالحل السياسي كما تريد قوى العدوان على سورية امر يشكل أيضا نجاحا للبنان ولسورية أيضا، حيث شكل قرار النازحين واللاجئين أساسا يبنى عليه في المواقف الدولية مستقبلا لمصلحة سورية ولبنان معا وطبعا لمصلحة ​النازحين السوريين​ الذين يريد الغرب اتخاذهم رهينة او ورقة ضغط على سورية في إطار الحل السياسي.

* أكد لبنان رغم الكثير من العوائق والظروف الذاتية والموضوعية انه يتمتع بقدرات هامة في مجال الامن والتنظيم وإدارة اجتماعات من هذا النوع وبهذا المستوى وفي هذا أيضا كسب وطني معنوي يحجب الى حد بعيد الخسائر والنفقات المادية التي تكبدها لبنان في هذا السياق.

اما عن المقاطعين والمعرقلين وفي أي مكان او موقع وجدوا فقد كشفوا أنفسهم وفضحوا قدراتهم المحدودة في التأثير على امر بحجم ما حصل وقد يكون ذلك درسا يستفاد منه، ويبقى ان نقول كلمة لممتهني جلد الذات، انه في المسائل الوطنية يجب ان تتقدم صورة الوطن ومصلحته على مصالح الشخص وذاتيته وانانيته ولو لحظة واحدة...