علاقة تاريخية تربط ​فرنسا​ ب​لبنان​. هي علاقة عاطفة أكثر منها عقل. ففرنسا التي تجد نفسها اليوم بحاجة الى ترميم حضورها في المشرق، تعتبر ان لبنان هو الميدان الثقافي والإجتماعي الذي تقدر ان تنطلق منه لإستعادة دورها التاريخي في الشرق، والذي عاشته خلال القرون الوسطى حتى منتصف القرن العشرين. ف​باريس​ تأمل استعادة ما فاتها من نفوذ وتأثير في المنطقة وسط كثرة اللاعبين الإقليميين في مشهد سياسي معقّد ومتشابك.

تبدو فرنسا اليوم متحمّسة للبنان كما كانت في السابق، مع بعض التحفّظ. كيف لا، وهي احتضنت بلداً أنشأته كدولة منذ مئة عام، فأعارته علَمها كي يضع في وسطه أرزته الرمز، وأطلقت له يد ترسيم حدوده وتاريخ استقلاله، وأعطته ثقافتها الأوروبيّة، الا أنه أثبت أنه غير قادر على توحيد أبنائه تحت شعار واحد، وهو يتخبط متلطياً بشعار ​البابا​ يوحنا بولس الثاني الذي قال عنه أنّه "وطن الرسالة"، فيتغنى به في المحافل الدولية، غير منتبهٍ الى أن دول ​العالم​ تدركُ عجزه الإداري كما الإقتصادي، وتأسف لوضع شعبه المتصارع الذي لا يعرف الثورة الا حفاظاً على إسم زعيمه.

عاد الإهتمام بلبنان بقوّة مع وصول الرئيس الفرنسي ​ايمانويل ماكرون​ الى الحكم، اهتمام سطع بعدما خفت النجم الباريسي في العقود الماضية بتراجع النفوذ الفرنسي في ​الشرق الأوسط​ لصالح القطب الأميركي.

اول الغيث في عودة ​الحياة​ الى شرايين الحضور الفرنسي القوي في الشرق الأوسط، ظهر في أزمة استقالة رئيس ​الحكومة​ المكلّف ​سعد الحريري​ من ​السعودية​، وما رافقها من التباس وغموض، فتدخل الرئيس ماكرون بالشكل المباشر، أعاد ​الضوء​ الى دور فرنسا الريادي في الشرق الأوسط، ودفعه الى الأمام. وكرّت سبحة المواقف الفرنسيّة والمؤتمرات الداعمة للبنان كان آخرها مؤتمر "سيدر" الذي جمع للبنان حوالي ١٢ مليار ​دولار​. هذا هو لبنان اليوم وهذه علاقته بأمّه الحنون فرنسا.

مئة عام على مؤتمر الصلح

بعد مئة عام على وقوف فرنسا الى جانبه عندما أعلنته "دولة" سُميت بـ"دولة لبنان الكبير"، سيتذكر ​اللبنانيون​ اليوم كيف رسم البطريرك الماروني الراحل ​يوسف الحويك​ حدود لبنان الجغرافية في مؤتمر السلام (مؤتمر الصلح) في باريس، هذا المؤتمر الذي احتفل بمئويّته الأولى الأسبوع الفائت، والذي افتتح أعماله في ١٨ من كانون الثاني ١٩١٩ بحضور عشرات الدول لبحث مصير شعوب الشرق الأوسط وأوطانها. وبين مشروع الأمير فيصل "العروبي"، ورغبة المسيحيين اللبنانيين ب​الإستقلال​ عن ​سوريا​، وجد البطريرك يوسف الحويك نفسه قائد الحملة اللبنانية بعدما تظاهر اللبنانيّون امام الصرح البطريركي في ​بكركي​، على مختلف طوائفهم، مفاوضين البطريرك التكلّم بإسمهم والسعي الى تحقيق مطالبهم.

صولات وجولات خاضها الحويك مع الوفود اللبنانية في باريس للمطالبة بالإعلان عن دولة لبنان الكبير. كانت الوفود تتألف من شخصيات سياسيّة وأحياناً دينيّة. وكانت تنطلق عادة من ​مرفأ جونية​ الى مرفأ الإسكندريّة في مصر قبل أن تبحر غرباً الى ​اوروبا​.

في بداية المناقشات في مؤتمر الصلح في باريس، لم تلقَ طلبات الحويك آذاناً صاغية عند الأوروبيين، لأنّ فرنسا كانت تحاول إقناع البطريرك بمحاسن الإبقاء على الوحدة مع سوريا، نظرا لصِغَر حجم لبنان ولافتقاده للموارد الطبيعية، لكن جواب البطريرك كان حازماً: نريد ​الاستقلال​.

وفي نهاية الجولات، وبعد جدال دار بين الحويك ورئيس الوزراء الفرنسي جورج كليمنصو الذي يرأس مؤتمر الصلح، جدال أفضى الى مذكرة تعلن عن إنشاء دولة لبنان الكبير أُدرِج فيها مطلب الإنتداب الفرنسي .

فرنسا التي أطلقت لبنان كدولة عام ١٩٢٠، وأنجبت له حدوداً دولية عام ١٩٤٣، وهي تصطفّ الى جانب المسيحيين منذ القرن التاسع عشر، وقامت بوضع أول رئيسين للجمهورية في لبنان وهما ​شارل دباس​ وبترو طراد.

في الحقيقة، اعتبر ​المسيحيون​ ان ولادة دولة لبنان الكبير هي نتيجة نضال طويل خاضوه ببسالة، بقيادة الكنيسة وبعض المثقفين والأحزاب والجمعيات اللبنانية. اما المسلمين بشكل عام، فكانت بالنسبة اليهم هزيمة سياسيّة وخيبة أمل ببناء دولة عربية. وهنا لعبت فرنسا دوراً كبيراً في دعم ولادة دولة عربيّة حكّامها من المسيحيين.

وانتزع لبنان استقلاله عام ١٩٤٣ من الإنتداب الفرنسي وتمّ جلاء آخر جندي عن الأراضي اللبنانية عام ١٩٤٦، وأصبح عضوا في جامعة الدول العربيّة عام ١٩٤٧ كدولة ذو وجه عربي ذات ثقافة اوروبية تميّزه عن باقي الدول العربيّة .