ثمة تناقض بدا واضحاً في المواقف والسياسات الأميركية في المنطقة والعالم ولم يعد خافياً حال الانفصام الحاصل في شخصية أميركا السياسية حتى نكاد الجزم بالقول إن أميركا ترامب لا تشبه أميركا التي عهدناها في العقود الأربعة الماضية خصوصاً لجهة دورها الذي وصف بسطوة القطب الواحد المهيمن على المنطقة العربية والعالم.

الكثير من مراكز الدراسات الإستراتيجية العاملة في أميركا وخارجها التي عرفت بولائها وبترويجها لنشر الديمقراطية الأميركية في العالم وضعت مؤخراً دراسات موثقة وتفصيلية مفادها فقدان الثقة بالقيم الأميركية وتراجع التأثير في قدرة الدعاية وانكشاف زيف ادعاءات أميركا خصوصاً بعد إخفاق مفاعيل ما سمي الربيع العربي إضافة إلى تقدم وصعود ملحوظ للدور الروسي الإيراني وذلك على حساب الدور الأميركي الذي يشهد انكفاءً ملحوظاً عن المنطقة، فالقرار الأميركي بالانسحاب من سورية وتخفيض عديد القوات الأميركية العاملة في كل من أفغانستان والعراق أحدث هوة بين أميركا وأبرز حلفائها في المنطقة إسرائيل وتركيا العضو في حلف الناتو، فالعدو الإسرائيلي وصف قرار الانسحاب الأميركي من سورية بالمفاجئ والنكسة التي تهدد أمنه متهما أميركا بإخلاء الساحة لمصلحة الوجود الإيراني والنفوذ الروسي في سورية وجعل إسرائيل في مواجهة مباشرة مع الجيش العربي السوري وإيران وحزب اللـه اللبناني، أما التركي وصف القرار الأميركي بالطعنة.

لم تجد أميركا مفراً من طمأنة حلفائها بحيث أوعزت إلى وزير خارجيتها مايك بامبيو بزيارة الحلفاء في المنطقة للتبشير بأن أميركا لم تزل على موقفها المناهض لإيران ولذلك كانت الدعوة الأميركية إلى مؤتمر «وارسو» تحت عنوان كيفية مواجهة التمدد الإيراني في المنطقة ومحاصرته.

من جهة ثانية، لإظهار النيات الأميركية العلنية المطمئنة للحلفاء أرسلت الإدارة الأميركية إلى بيروت مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط ديفيد هيل، كما أرسلت نائب وزير الخزانة الأميركية لمكافحة الإرهاب مارشال بيلينغسلي في مهمة مستعجلة تعيق تشكيل الحكومة اللبنانية وعدم إعطاء أي دور لحزب اللـه اللبناني في الحكومة الجديدة هذا من ناحية ومن ناحية أخرى للإيحاء بأن أميركا جادة في فرض مراقبة صارمة على التحويلات المصرفية التي تمر عبر مصارف لبنانية ضماناً لعدم تمويل «الإرهاب» وبعبارة أخرى قطع سبل تمويل حزب اللـه اللبناني وذلك حسب الادعاء والتوصيف الأميركي.

لكن الدعوة الأميركية لمؤتمر «وارسو» واجهت برودة أوروبية ملحوظة حيث أعلنت مسؤولة العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي فريديريكا ميوغريني عدم الرغبة في حضور المؤتمر كذلك انسحب البرود على بعض الدول العربية وأميركا اللاتينية الذين أعربوا عن عدم تلبية الدعوة الأميركية لمؤتمر يحمل في طياته العداء لإيران وكيفية محاصرتها ولا ننسى أن هذه البرودة في تلبية الدعوة تأتي بعد تشبيك المصالح الاقتصادية المشتركة مع إيران.

مصدر أوروبي رفيع وفي جلسة ضيقة قال: لا تستغربوا تصرفات ترامب والانفصام الحاصل في السياسة الأميركية فالرئيس الأميركي دونالد ترامب راغب شخصياً في فتح قنوات اتصال خلفية وسرية مع إيران وذلك لتحسين شروط الاتفاق النووي وليس لإلغائه، وحسب معلومات المصدر الأوروبي فإن القنوات الخلفية باشرت عملها واجتماعاتها في إحدى الدول الأوروبية ويؤكد المصدر الأوروبي أن اتفاقاً من تحت الطاولة يقضي بغض الطرف الأميركي عن الآلية الأوروبية الإيرانية المشتركة للتفلت من العقوبات الأميركية المفروضة عليها وهذا ما أعلنت عنه كل من فرنسا وألمانيا وإسبانيا كما أعلنت عنه إيران.

يضيف المصدر الأوروبي قوله رغم الصراخ الأميركي العلني لكن أميركا في القنوات الخلفية غير أميركا العلنية فأميركا تتبع البراغماتية التي توفّر لها الهيمنة الاقتصادية فقط والتخلي عن الوجود العسكري.

انظروا ما يحدث، أميركا تقود انقلاباً عسكرياً في فنزويلا لإسقاط الرئيس نيكولاس مادورو المنتخب ديمقراطياً من الشعب على حين تفاوض الدائرة اللصيقة بالرئيس مادورو للحصول على نسبة من ثروات فنزويلا النفطية والمعدنية وأيضاً في محاولة للضغط على روسيا ومساومتها على ملف أوكرانيا والقرم، أميركا انسحبت من اتفاقية باريس للمناخ كما أعلنت أمس أنها جمدت العمل في اتفاقية الحد من الصواريخ المتوسطة في رسالة واضحة للجانب الروسي وفي محاولة أميركية لاستعادة ما تبقى من هيبة فقدتها، والأهم من كل هذا يجب أن ندرك أن أميركا تريد التملص من كل التزاماتها واتفاقات الحد من التسلح والعودة إلى زمن سباق التسلح ليس لمواجهة إيران إنما للتوجه نحو المحيط الهندي ولمواجهة الخطر القادم من الصين وكوريا الديمقراطية، أميركا قررت التخلي عن المنطقة ولم تعد ترغب في حماية أحد، فاهتمام أميركا منصب في كيفية وضع الأطر لمواجهة الخطر الصيني وأيضاً لمواجهة خطر التفاهم والتنسيق الروسي الصيني المتصاعد.

في ملف آخر لفت المصدر إلى الإعلان عن تشكيل الحكومة اللبنانية بعد تأخر دام تسعة أشهر وفي هذا الصدد يقول المصدر: هناك اتفاق بين دول أوروبية بينها فرنسا وإيران لتعزيز التعاون في مواجهة العقوبات الأميركية المفروضة على إيران، ومن يعتقد أن الاتفاق بين إيران ودول أوروبا جاء بمعزل عن تفاهم وغض الطرف الأميركي فهو واهم، وإذا ما أردنا التأكد من الموافقة الأميركية على إعطاء الضوء الأخضر لتشكيل الحكومة اللبنانية فعلينا ملاحظة تلك الليونة التي ظهرت فجأة في مواقف حلفاء أميركا على الساحة اللبنانية الأمر الذي أنجب مولوداً جديداً اسمه حكومة الوحدة الوطنية وتولي حزب اللـه وزارة الصحة فيها رغم التهديد الأميركي، ولولا ذلك لكانت مواقف حلفاء أميركا والسعودية في لبنان مغايرة تماماً ورافضة للتشكيلة الحكومية وفي مقدمهم رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري الملتزم بالموقف السعودي وهو الذي قبل على مضض بتوزير نجل أحد منافسيه البارزين.

صحيح أن الحكومة اللبنانية تشكلت لكن أميركا تراقب عن كثب بعض الترتيبات الأمنية والاقتصادية المطلوبة ولاسيما الالتزام بضبط الوضع في جنوب لبنان ومنع أي مواجهة مع العدو الإسرائيلي أما اقتصادياً فالمراد الأميركي الفوز بحصة وازنة من تلزيم التنقيب عن غاز لبنان، إن أميركا اليوم مقتنعة بالانكفاء من المنطقة عسكرياً لكنها تريد البقاء فيها اقتصادياً وذلك بغرض الهيمنة على ثرواتنا والتموّل منها بغرض تغذية وجودها العسكري شرقاً في مواجهة الصين.

باختصار بين المواقف العلنية وبين الصفقات المخفية أضحت أميركا تعاني انفصاماً سياسياً عسكرياً يصعب شفاؤه.