اقام مارون على قمة جبل في العراء في البر والحر لا خيمة فوقه الا السماء. في الثلج والشتاء والعواصف والرياح راكعا رافعا يديه الى العلاء. هناك في اواخر القرن الرابع نحو سنة 370 للميلاد، وفي مدينة قورش الجبلية تنسّك مارون عائشا التقشّف و​الصوم​ والصلاة حتى توفي سنة 410.

القديس مارون هو ابن الكنيسة جمعاء وعاش قبل أن تنقسم الكنيسة الى طوائف واحزاب. لذلك تعيّد له الكنيسة الارثوذوكسيّة ايضا في ​14 شباط​.

مارون لم يزر لبنان

القديس مارون لم يزر لبنان بل زاره أحد تلامذته ابراهيم القورشي، وخاصة في منطقة أفقا و​نهر ابراهيم​. المارونية كانت كما يقول قدس الاباتي بولس نعمان(1) أنّها "تراث روحي يشدّ ​الموارنة​ الى الانجيل الإله المتجسّد بالقديس مارون مثالهم في عيش الانجيل ببساطة واخلاص، واتقان وبطولة"... أمّا غير كنائس تأسست على بطريرك أو رسول أو مدينة.

حق الانسان بالحرية والعيش الكريم

اما الدكتور كمال الصليبي فيقول: هم الشعب الصغير الذي حافظ على هويته التاريخية عن طريق الثبات في الموقف والكفاح المستمر ضد الجور... وتمكنوا من المحافظة على حق الانسان في الحرية والعيش الكريم"(2). وتبقى مقالة الارثوذكسي الفيلسوف الدكتور شارل مالك في هذا الاطار شهادة رائعة.

لولا المارونية لما وجد لبنان

في المارونية ولبنان "لأنه لولا المارونية لما وجد لبنان"(3)...

فهم في الحقيقة كما قال عنهم ​البابا​ لاون العاشر (+1521) "كالورود بين الاشواك"(4).

فالمارونية إذاً جمعت في وحدة ثنائية تجسّد الالوهة في الثالوث بتوازن رائع فلم يخسر اللاهوت شيئا من جوهره ولم يحترق الثالوث في لقائه باللاهوت. علاقة مميزة فريدة ورائعة بين التيولوجيا والانتربولوجيا.

جماليّة تيولوجّية وانتربولوجيّة فاخصبت جمالية Esthetica لاهوتية وانسانية فريدة تجمع بين التيولوجيا والانتربولوجيا بين اللاهوت والناسوت برسالة خاصة حملها الموارنة للبنان والعالم فاستطاعوا أن يعيشوا بمحبة واحترام مع الموحّدين ​الدروز​ و​الاسلام​ السنّة و​الشيعة​، ومع الشرق والغرب مع يوسف السمعاني(1786)(5) وابراهيم الحاقلاني(1664)(6) والحصروني(7) وجبرائيل الصهيوني الاهدني(1648)(8) وسواهم من عباقرة الموارنة.

لنمدح الرجال النجباء

​​​​​​لذلك علينا: "أن نمدح الرجال النجباء الذين ولدنا منهم كما يقول يشوع بن سيراخ (44/1-15) فبهم أنشأ الرب مجدا كثيرا.

فكانت ايامهم أيام فخر... لا يمحى مجدهم... وأجسادهم دفنت بالسلام... واسماؤهم تحيا مدى الاجيال"...

ويبقى ما كتبه القديس توادريطس القورشي (بين 458 و266) أهم شهادة عن حياة القديس مارون. فلا عجب أن تقوم علاقة مودّة بين بطريرك عظيم هو القديس يوحنا فم ​الذهب​ وراهب ناسك في العراء هو القديس مارون، و"ان يصلي الى الله لأجله" وقد جاء ذلك في الرسالة 36 التي كتبها يوحنا فم الذهب سنة 404 للقديس مارون".

"فالمارونية هي هذه الروحانيّة الباقية من نهج الموارنة القدامى"... وهي هذا التراث الحضاري بين تلّة قورش وتلّة عنّايا و​وادي قاديشا​. الذي أسّسه وعلّمه الموارنة في المجمع الخلقيدوني (سنة 451 رسالة حياة وسلوك للموارنة والعالم) فالتقت تلة قورش بتلة عنّايا في حياة ​مار شربل​ والقديس نعمة الله والقدّيسة رفقا والطوباوي الاخ اسطفان ونسّاك وادي قاديشا. لتبقى المارونيّة وجودا غير منغلق على الذات بل حضورا منفتحا على الارض وعلى العالم.

فالمارونية تيولوجيا متجذّرة ومتجسّدة في شعب وأرض فلم تجعل للوطن دنيا مغلوقا ومحصورا في ذاتها وشعبها وأرضها. ولم تجعل للدين أفضليّة على دين آخر وانغلاقا على الانفتاح على الشموليّة والعالميّة، فتواطنت حيث عاشت وانتشرت مع أرضها وشعبها وحضارتها وثقافتها وشخصيتها، وتجذرت مع شخص بطريركها بكاثوليكيتها وبرومانيتها ومارونيتها، ولبنانيتها ومريمتها ووحدة وثالوثية الهها.

فلا تخف أيها القطيع الصغير، لك مارون في السماء نصيرا ومعه شربل ورفقا ونعمة الله واسطفان وغيرهم وأكثر، لا تخف بالثبات، وعيد مبارك وابقوا ايها الموارنة أمناء لتراثهم ألا وهو حب الله وحب مريم وحب لبنان وحب الاخر وحب الريادة والتأسيس.

(1) ​مار مارون​ صلاة المساء والصبح والزياح الكسليك 1979 لبنان ص 1.09

(2) مار مارون، صلاة المساء والصبح والزياح، الكسليك 1979 ص 570

(3) المرجع نفسه ص 580

(4) المرجع نفسه

(5) عمل في التدريس في ​ايطاليا​، ثم في المدرسة الملكيّة في ​باريس​، وترجم الى اللاتينيّة كتاب "نزهة المشتاق" للشريف الادريسي.

(6) تخرّج من روما ودرّس في جامعة باريس وترجم للبلاط الفرنسي مجموعة من الكتب وقد لُقّب بـ"ترجمان البلاط".

(7) هو يوحنا قرياقس، رافق جبرائيل الصهيوني الاهدني الى باريس وعُيّن ترجمانا للملك. ونقل مجموعة كبيرة من الكتب العربيّة الى اللاتينيّة. وتوفي عام 1626.

(8) عمل في مكتبة ​الفاتيكان​ فجمع المخطوطات العربيّة فيها، ووضع لها الفهارس والتعليقات.