في الرابع من كانون الثاني من العام 1993، أي بعد نحو ثلاث سنوات من إنتهاء الحرب اللبنانيّة، صدر القانون رقم 190 حاملاً توقيعي ​رئيس الجمهورية​ آنذاك الراحل إلياس الهراوي، ورئيس ​مجلس الوزراء​ آنذاك الشهيد ​رفيق الحريري​، وقضى بإستحداث وزارة تُسمّى "وزارة شؤون المُهجّرين"، تهدف إلى إعادة كل المُهجّرين في مُختلف المناطق اللبنانيّة، وتحصين أوضاعهم من النواحي الإجتماعيّة والإقتصاديّة كافة، وتمكينهم من الإستقرار في أمكان إقامتهم، إلخ. واليوم، وبعد أكثر من ربع قرن على هذه الخُطوة، لماذا لم ينته هذا الملف، وهل فعلاً سيكون وزير المُهجّرين غسان عطاالله الأخير في سلسلة من الوزراء الذين فشلوا في طي صفحة هذا الملف بشكل نهائي لألف سبب وسبب؟.

مع كل وزارة جديدة، ومع كل وزير جديد للمُهجّرين، كانت تُطلق الوُعود بإنهاء هذا الملفّ الموروث من الحرب اللبنانيّة بشكل نهائي، ومع نهاية عهد كل حُكومة وكل وزير للمُهجّرين بالفشل، كانت الحجّة أنّ التمويل غير كاف! لكن عند التدقيق بالأرقام، يتبيّن أنّ نحو ملياري ​دولار​ أميركي جرى صرفهم من قبل الوزارة منذ العام 1993 حتى اليوم، علمًا أنّ الدولة اللبنانيّة أصدرت في الماضي سلسلة من القوانين تحمل الأرقام: 242، و333، و362 وقامت بإنشاء "الصندوق الوطني للمُهجّرين"، وذلك بهدف تمويل الإخلاءات والتعويضات وكل ما له علاقة بعودة المُهجّرين. وليس بسرّ أنّ قسمًا كبيرًا جدًا من هذه الأموال ذهب هدرًا، أو أقلّه عن غير وجه حقّ–إذا جاز التعبير، بحيث لم يصل إلى جيوب أشخاص مُهجّرين لمُساعدتهم على العودة إلى بلداتهم وقراهم وعلى إعمار منازل جديدة بدلاً من تلك المُهدّمة، وإنّما إلى جيوب أشخاص صادروا بعض المنازل خلال الحرب، وتمّ دفع الكثير من الأموال لحثّهم على إخلائها، تحت شعار طيّ الجروح. ولأنّ كميّة الأموال المرصودة في كل مرّة، لم تكن كافية لإقفال الملفّ، مرّ الوقت وكبرت المشكلة، بحيث صار من الضروري دفع المزيد من الأموال لتأمين الإخلاءات، لأنّه في كثير من الأحوال، زاد عدد الأشخاص الذين يسكنون منازل مُصادرة، وتفرّعت الكثير من العائلات، وبالتالي بدلاً من دفع تعويض لعائلة واحدة لإخلاء المنزل المُصادر صار لزاماً دفع تعويضات لعائلات عدّة باتت تسكن نفس المنزل! أكثر من ذلك، كانت ​السياسة​ الحاضر الدائم في هذا الملف، حيث إستخدمت أموال طائلة، إن التي دُفعت لتمويل الإخلاءات أو التي دُفعت لتمويل التعويضات، لمصالح إنتخابيّة لبعض الجهات الحزبيّة في أكثر من محطّة إنتخابيّة!.

واليوم، يبدو التفاؤل كبيرًا لإقفال هذا الملفّ جديًا، في ظلّ تعهّد الحُكومة اللبنانيّة بذلك في بيانها الوزاري، وإطلاق الوزير المعني سلسلة من التصاريح الإعلاميّة التي تؤكّد هذا المنحى. لكن وفي حين جرى تجاوز الأغلبيّة الساحقة من العوائق الأمنيّة والسياسيّة بفعل مُرور ثلاثة عُقود على إنتهاء الحرب، وبنتيجة إقفال صفحة المُصالحات أيضًا بشكل شبه كامل مع إستثناءات محدودة جدًا، لا تزال عقبة التمويل جاسمة على صدر هذا الملفّ–إذا جاز التعبير. وإذا كانت الدوائر المعنيّة في وزارة المُهجّرين تعمل حاليًا على تحديد عدد الملفّات الباقية، وحُكمًا حجم التمويل المطلوب لطيّ هذا الملف نهائيًا، يتردّد أنّ المسألة ليست سهلة، وهي تحتاج إلى تمويل كبير يُقدّر بمئات ملايين الدولارات، لأنّه-وبعكس الإنطباع السائد، لا تزال هناك آلاف الملفّات العالقة (لم يتمّ دفع أي تعويضات فيها بعد، أو لم يتم إستكمال الدفعات الأوّلية التي جرى صرفها سابقًا فيها). من هنا، تتجه الأنظار إلى كيفيّة قيام ​الحكومة​ الحالية بتأمين الأموال الكبيرة المطلوبة، في ظلّ حال العجز في ميزان الواردات والمدفوعات التي تُعاني منه خزينة الدولة منذ مدّة، مع العلم أنّ المبالغ التي نالها المُهجّرون في السابق كانت محدودة جدًا على المُستوى الفردي، وبعضها لم يكن كافيًا لبناء منزل متواضع بدلاً من المنزل المُهدّم، والقيمة الفعليّة لهذه المبالغ تراجعت مع الوقت.

في الخُلاصة، لا بُد من الإشارة إلى أنّ الرأي مقسوم بشأن ما ينتظر ملفّ المُهجّرين، حيث يعتبر البعض أنّ الظرف مُناسب تمامًا لإنهاء هذا الملف، بسبب وُجود حزم بذلك من أعلى السُلطة، وبسبب وُجود توافق سياسي بين القوى السياسيّة المعنيّة، في حين يعتبر البعض الآخر أنّ الأسباب التي حالت في السنوات الماضية دون إقفال هذا الملف لا تزال حاضرة–ولوّ جزئيًا، وفي طليعتها صُعوبة تأمين المزيد من الأموال لهذا الملفّ الذي إستنزف الكثير من أموال الدولة، وكذلك بسبب تداخل العامل السياسي بالعامل الإجتماعي، ما سيدفع أكثر من طرف لوضع العصي في دواليب الحُلول ما لم يتمّ تمويل تعويضات العودة والإخلاءات بشكل مُتوازن. وفي كل الأحوال، لا شكّ أنّ الوقت قد تأخّر كثيرًا لحلّ هذا الملفّ، بشكل تسبّب بتغيير ديمغرافي خطير في كثير من القرى والبلدات اللبنانيّة، حيث جاءت العودة خجولة وضعيفة، وإنقطع الكثير من أبناء الجيل الجديد عن زيارة أرض الأجداد، الأمر الذي حوّل الكثير من المناطق إلى بلدات باردةوخالية إلا من عدد قليل من كبار السنّ، وإلى أراض عرضة للبيع بأرخص الأثمان!.