حدثان بارزان تصدرا المشهد السياسي في المنطقة، نظراً لوقعهما وما حملاه من دلالات مهمة تؤشر إلى توقّع قرارات مصيرية في لحظة دقيقة تاريخية ترتسم فيها معالم نظام إقليمي جديد في المنطقة العربية و​العالم​.

وفي ظل اعتراف العالم بقرب إعلان انتصار سورية على ​الإرهاب​، ونجاحها في منع تحقيق أهداف المؤامرة الكونية عليها، نتيجة صمودها الأسطوري وإصرار ​القيادة​ فيها على رفض كل التسويات والصفقات المتعارضة ومصلحة سورية العليا، شهدت العاصمة السورية دمشق عودة ​البعثات الدبلوماسية​ التابعة لبعض ​الدول العربية​ التي شكلت رأس حربة في تسعير أوار الحرب فيها، وذلك اعترافاً بالهزيمة، إضافة إلى حدوث تبدل جوهري في جسم تحالف المتآمرين على سورية بعدما شهد اختلافاً ملحوظاً في تنفيذ الأهداف المعلنة تبعاً لتبدل أجندة لمصالح.

بروز هذا الاختلاف تجلّى بالصراع الدائر على شمال وشمال شرق سورية بين المملكة العربية ​السعودية​ و​الإمارات​ العربية المتحدة من جهة وبين ​تركيا​ «الإخونجية» و​إيران​ الإسلامية من جهة أخرى، فالكل يريد تنفيذ أجندته الخاصة بما يعزز نفوذه وأوراقه التفاوضية في أي تسوية ممكنة.

وإذا استثنينا إيران المرتبطة بحلف إستراتيجي مع سورية الدولة، حيث لا أطماع إيرانية بالأرض السورية، نرى بوضوح التباين الحاصل بين إيران وتركيا التي أعلنت صراحة أنها تريد إنشاء المنطقة العازلة على طول الحدود المشتركة مع سورية، وإقامة الوصاية التركية عليها.

أدركت كل من السعودية والإمارات خطر النيات التركية، وهذا ما دفع السعودية و​البحرين​ والإمارات لإعلان التقارب مع دمشق مع الاستعداد لقبول عودة سورية إلى ​الجامعة العربية​ ولو بشرط ضبط الوجود الإيراني فيها.

في هذه الأثناء جاء الحدث البارز الأول، بالشكل والمضمون، والذي تمثّل بخطاب الرئيس ​بشار الأسد​ أمام رؤساء وأعضاء المجالس السورية.

خطاب الرئيس الأسد تضمن رسائل مهمة وفي اتجاهات عدة، منها عرب ​الخليج​ وتركيا والعلاقة مع إيران و​روسيا​. ومما جاء فيه:

 المتآمرون عبروا عن يأسهم من كسر صمود ​الشعب السوري​ بحرب لم يشهد لها التاريخ الحديث مثيلاً.. فهذا الصمود لم يفشل خططهم فحسب، بل أصبح يشكل التهديد الحقيقي لمستقبلهم السياسي.

 هناك قلق وضياع لأن إخوتنا من العربان وضعوا أمامهم وصفات مبسطة. لكنهم رأوا أن الحسابات مختلفة تماماً والأمور تذهب باتجاه مختلف بشكل كلّي ولم يتعلموا الدرس.

 هذه الدول تاريخها استعماري.. فكيف يمكن لمستعمر لا تحمل صفحات تاريخه إلا الاحتلال والقتل والدمار واستعمال الإرهاب كورقة لحرق الشعوب واستعبادها.

وفي إشارة واضحة إلى متانة الحلف مع إيران قل الرئيس الأسد: إن إيران الشقيقة قدمت حصراً الخبرات العسكرية.. لم تقدم أي شيء آخر في المجال العسكري.. وأما إخوتنا الأوفياء في ​المقاومة​ ال​لبنان​ية، فقاتلوا معنا وقدموا أقصى ما يستطيعون.

* إن كل شبر من سورية سيُحرر مهما كانت التكلفة، ولن نسمح للعملاء بالحصول على ما عجز عنه أسيادهم.

الرسالة المبطنة وُجهت إلى الكرد باعتبارهم مكوناً سورياً، وبضرورة التفاهم مع ​الدولة السورية​ لأنها الملاذ الآمن.

أما الرسالة الأهم فكانت موجهة لأردوغان الذي وصفه بأنه «مجرد إخونجي أجير صغير عند أسياده، ولن يُسمح له بتحقيق مآربه، لأن الكلام الفصل هو للميدان».

من هنا ندرك مغزى مقال السفير الأميركي السابق في سورية ​روبرت فورد​ حيث قال: إن الرئيس «الأسد فوّت على نفسه فرصة ثمينة حين رفض صفقة روسية أميركية تقضي بإعطاء الكرد الحكم الذاتي مقابل القبول بنشر قواته على الحدود مع تركيا».

وهنا يتأكد رفض القيادة السورية كل ما من شأنه التفريط بوحدة الأرض والمكونات السورية.

أما الحدث الثاني البارز فهو زيارة الرئيس الأسد التاريخية إلى إيران، وارتداداتها على المستويين الإقليمي والعالمي.

شكلت هذه الزيارة التاريخية ترسيخ التحالف بين البلدين، ورسالة سورية واضحة للعرب والغرب، ولكل من يطلب من القيادة السورية الابتعاد عن إيران ربطاً بحجة جهوزية الموافقة على تسوية سياسية تسمح بعودة سورية للجامعة العربية، وبعودة ​النازحين السوريين​ إلى سورية، أو السماح بانطلاق إعادة إعمار سورية.

لكن الجواب جاء من خلال فهم معنى زيارة الرئيس الأسد التاريخية لإيران، وكان واضحاً استقبال قائد الثورة ​علي الخامنئي​ للرئيس الأسد، والبهجة الفارقة غير المسبوقة التي ظهرت على محيا المرشد كانت أكبر دليل على أن العلاقة السورية الإيرانية تجاوزت مراحل المصالح لتدخل مرحلة ربط المصير والمسار بين الجانبين.

وصف المرشد للرئيس الأسد بأنه بطل العرب، له دلالات واضحة بأنه بصمود الرئيس الأسد وانتصار سورية سيكتب التاريخ الجديد للأمة العربية المبني على عزة وكرامة الشعبين العربي والإيراني، وبأن الرئيس الأسد هو القائد الفعلي للأمة العربية المقاومة لأجندات ​أميركا​ والغرب الناهب لثرواتنا العربية، أمة عربية حرة مؤمنة رافضة للتطبيع المفضوح مع العدو الإسرائيلي، وان الرئيس الأسد قائد لأمة لا تناور ولا تساوم على الأرض وعلى الحق العربي والحق الفلسطيني.

إن أول ارتدادات الزيارة التاريخية جاءت من ​الحكومة الأميركية​ العميقة.

إصدار أوامر أميركية للدول العربية بسحب بعثاتها الدبلوماسية العربية من دمشق، وذلك بعد الإعلان عن عودتها إليها.

عدم السماح بعودة سورية إلى الجامعة العربية.

عدم السماح بعودة النازحين السوريين إلى ديارها، وإبقاؤهم حيث هم في ​الأردن​ ولبنان وتركيا و​أوروبا​.

عدم السماح بالبدء بعملية إعادة الإعمار في سورية.

إصدار أمر أميركي للسلطات المصرية يقضي بمنع مرور البواخر الإيرانية المتجهة إلى سورية عبر ​قناة السويس​، وعدم السماح بتزويد سورية بأي مواد حياتية مهمة.

الرئيس الأسد قال: إن الحرب في سورية لم تنته، وإننا بعد إحراز تقدم واضح في الميدان وقد استعدنا أكثر من 95 بالمئة من الأرض السورية، إلا أننا نواجه أربع حروب:

حرب عسكرية من نوع آخر (التركي الأميركي)، حرب حصار اقتصادي، حرب المعلومات الإلكترونية المدسوسة، حرب إعادة توحيد المجتمع السوري.

هنا يتضح رفض ​الولايات المتحدة​ تنفيذ الطلب السوري السماح لنازحي مخيم ​الركبان​ بالعودة إلى الوطن السوري. كما يتضح لنا سبب قصف المقاتلات الأميركية منطقة باغوز بمادة الفوسفور، وذلك لإعاقة تقدم ​الجيش​ العربي السوري واستعادة المنطقة في شمال شرق سورية.

أمام هذا المشهد، يتضح لنا سبب الصراع الشرس الدائر على ​الشمال​ السوري. هو صراع وسباق على تحديد النفوذ بين مختلف الدول، وذلك لضمان الحصص الوازنة في رسم النظام العالمي والإقليمي الجديد، انطلاقاً من السيطرة على الشمال والشمال الشرقي لسورية.

سورية قالت كلمتها، فلا هوادة ولا مساومة ولا تراجع عن تحرير واستعادة كل شبر من الجغرافيا السورية مهما كانت التضحيات، «فإما أن نكون دولة وزانة في النظام العالمي الإقليمي الجديد أو لا نكون».