«واحر قلباه ممن قلبه شبم ومن بجسمي وحالي عنده سقم

وجاهل مده في جهله ضحكي حتى أتته يد فراسة وفم

إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا أن تفارقهم فالراحلون هم»

المتنبي

في الطب النفسي هناك حالات نادرة توصف بـ»الشخصية المزدوجة» وأحياناً «الشخصيات المتعددة»، وهي غير الحالة الأكثر شيوعاً وهي «انفصام الشخصية» حيث يصبح المريض أسيراً للتهيُّؤات ما يمنعه من القدرة على التعامل مع الواقع.

أما حالات تعدد الشخصيات فهي أكثر تعقيداً لتشابك العوارض بين الإحساس بالتلبّس بشخصية ثانية بشكل دوري، وبين فقدان الذاكرة الشديد والمؤكد من خلال الإختبار من قبل الإختصاصيين.

ويعتقد أهل الإختصاص أنّ جزءاً من هؤلاء المرضى قد يكون خاضعاً للتنويم المغناطيسي خلال فترات تلبّسه للشخصيات الأخرى، لكن لا شيء يمكن التأكيد عليه بخصوص الأسباب، ولا حتى لعلاج هذه الحالات.

صديقي منذ أيام اليسار الماركسي اللينني، ما زال صديقي حتى الآن، وما زال يحتفظ بالمظهر ذاته منذ أول ما التقيناه، أي من أقل من نصف قرن بقليل. تلك اللحية الطويلة والمظهر الثوري ببنطلون الجينز والشال الفرنسي، وسجائر الجيتان ذاتها التي كان يحملها كالوسام في جيب قميصه، إلى جانب قلم «البيك» الأزرق، الذي كان يفضّله على أيّ ماركة أخرى، حسب قوله لأنه أقلّ ثمناً من غيره، ولن يفتقده إن ضاع.

لحية صديقي كان قد أطلقها تيمّناً بالرفيق كارل ماركس، وكعادة معظم يساريّي تلك الحقبة، فقد كان يشرب الفودكا، مع أنه كان يفضل الويسكي المعتق في الخشب، لكنه كان يسعى إلى تشجيع الإنتاج الشيوعي، إلى أن أخبرته بأنّ ماركة الفودكا التي كان يشربها هي إنتاج أميركي رأسمالي!

ما لي ولكل ذلك، ولست متأكداً اليوم إن كان صديقي ما زال يشرب النوع ذاته من الفودكا، أو أنه صار ينتقي ما تصنعه الرأسمالية الروسية اليوم، ظناً منه أنها اليسار المموَّه بثوب الرأسمال!

وقد يكون استبدل كؤوس الفودكا بكاسات الشاي المعتق، وما همني فهذا شأنه.

لكن صديقي ظهر أمامي في الصف الثاني من الصفوف الأمامية في مهرجان لـ«حزب الله» من مسلسل مهرجاناته الخطابية المتكررة، وكانت علامات الخشوع والرضا بادية على وجهه الطيب وهو ينصت لكلمات أمين عام «حزب الله» كمَن يستمع لتلاوة كلام مقدّس!

بعد ذلك بفترة التقيت به صدفة، فتعانقنا وعبّرنا لبعضنا عن الإشتياق، وكانت لحيته قد أصبحت بيضاءَ بالكامل، وعلبة الجيتان وقلم البيك ما زالا يتجاوران في جيب قميصه. وعندما أسهبنا بالحديث، كان هو ذاك اليساري ذاته الذي عرفته في مراهقتي، فأطرقت قليلاً ثم تكلمت محاولاً عدم إزعاجه بلهجتي. قلت إنني لمحته في مقدمة الحضور في مهرجان لحزب ديني، فماذا حلّ بالمناضل اليساري؟

سمعت منه الجواب التقليدي الذي كنت أسمعه من كل معارفي وأصدقائي «العلمانيين اليساريين»، وكانوا يجيبون دائماً «نحن مع المقاومة ولسنا مع أفكار «حزب الله» المتعلقة بالعقيدة السياسية والدينية». وعندما كنت أستفسر كيف يكون الإنسان مع مقاومة هدفها إقامة دولة دينية قائمة على اجتهادات أقرب إلى الأسطورة، عندها كانت تظهر فجأة الشخصية الأخرى بردٍّ عنيف ولئيم ليتّهمني الصديق الذي يعرفني ويعرف تاريخي بوصمة بالوهابية والسلفية، وإلى ما هنالك من صفات كالعمالة لإسرائيل وللإمبريالية الأميركية ورأس المال الجشع الذي يمتصّ تعب الكادحين من عمال وفلاحين وصغار الكسبة. في حين كنت أنا أنظر من حولي لأتأكد إن كان يخاطبني أنا أم شخصاً آخر يقف إلى جانبي، لكنني مع الوقت فهمت أنّ الشخص الآخر هو في صديقي ذاته.

يالمحصلة تبيّن لي أنّ أصدقائي اليساريين يملكون شخصيّتين منفصلتين متناقضتين، ولكنهم يملكون العبقرية والنبوغ للتسوية بينهما!