أنهت «شعبة المعلومات» آخر الاسبوع الماضي تحقيقاتها في ملف «سماسرة العدلية»، بعد نحو شهر من توقيف أول سمسار في 20 شباط الماضي. لكن عمل الجهاز الأمني في ملف ​مكافحة الفساد​ مستمر بالتزامن، وفق المعطيات، مع إنتقال ملف مافيا «الموتورات» من مديرية ​أمن الدولة​ الى «الشعبة» بتكليف من المدّعي العام ل​جبل لبنان​ القاضية ​غادة عون​. وفي موازاة «الشغل» الأمني تتجّه كل الأنظار صوب القضاء: هل تُعلن «الثورة البيضاء» من قصور العدل؟

الحصيلة بناءً على تحقيقات «الشعبة» دَسِمة: توقيف عشرة سماسرة بعضهم «مطلوب للعدالة» أصلاً، لكنه كان «يُكزدر» بحرّية بين مكاتب القضاة ومنازل السياسيين وموائد كبار القوم، إضافة الى رفع الحصانة عن محاميّين، وعشرات الموقوفين يتوزعون بين عسكر وكتبة وموظفين في العدلية وأطباء... والحبل على الجرار.

توسّع القضاء في التحقيق قد يوسّع بيكار «المشتبه فيهم»، مع بدء ​التفتيش القضائي​ في الأيام الماضية إستدعاء قضاة للتحقيق معهم. وأمس إدّعى المدّعي العام التمييزي ​القاضي سمير حمود​ جزائياً على ثلاثة قضاة في سابقة هي الأولى من نوعها، لكن هذا الإدعاء، وفق المعلومات، أتى ضمن ملفات قديمة لا علاقة لها بملفات التحقيق المفتوحة حالياً في ملف الفساد القضائي، وبينهم قاضيان أُحيلا الى التقاعد منذ سنوات، والثالث من قضاة «المعهد القضائي».

وقد تردّد أنّ لائحة القضاة «المشبوهين» في ملفات الفساد التي فتحت مؤخراً تشمل نحو عشرة قضاة، على خلفية تِهم فساد بناءً على محاضر تحقيقات «شعبة المعلومات» التي أُحيلت الى المدّعي العام التمييزي.

تداعيات حملة مكافحة الفساد ضمن أروقة ​قصر العدل​ لا يبدو أنها ستمرّ على خير، مع إرتفاع منسوب الحساسية بين جهاز أمني يقوم بمهماته، بناءً على الصلاحيات الممنوحة له قانوناً، و«لوبي» قضائي يعتبر أن ثمّة من «دخل الى ملعبه ليؤدّب الآخرين».

وتشير مصادر موثوقة في هذا السياق، الى «انّ العلاقة بين «الشعبة» والقاضية عون ممتازة، ويحكمها تنسيق دائم و«الشغل» على الموجة نفسها على خلفية حِرَفية التحقيقات ودقّتها، على رغم من بعض «الاجواء العونية» التي لامت القاضية على الثقة الزائدة بعمل الجهاز وتحقيقاته».

«التنظيف» من الداخل

من ​وسام الحسن​ الى ​عماد عثمان​ وصولاً الى خالد حمود، تدرّجت أولويات «شعبة المعلومات» في العمل وفق «مناخ» المراحل السياسية التي عايشتها الشعبة.

لكن بالتأكيد، لم يتوسّع مدار «الشغل» الأمني لضباط «الشعبة» ومروحة إنجازاتها منذ استحداثها عام 2006 كما هو حاصل اليوم: من ​مكافحة الارهاب​، خصوصاً في مجال العمليات الاستباقية والوقائية، الى العمل الجنائي عبر مكافحة الجريمة (سرقة مصارف، خطف مقابل فدية، مكافحة تجارة وتهريب وترويج ​المخدرات​، النشل، السرقة، والسلب بقوة السلاح، ترويج العملة المزورة والقتل...)، ومكافحة التجسّس، وصولاً الى ورشة غير مسبوقة في تاريخ المؤسسة في «تنظيفها» من الداخل، بدأت تأخذ منحى ضاغطاً أكثر وتُقلق كثيراً الضباط والعسكر «المشبوهين»، تحديداً بعيد تعيين العميد حمود رئيساً لـ «المعلومات» في آذار 2017، حيث وصل عدد الضباط الموقوفين الى أكثر من 30 ضابطاً.

عملياً، تحفل سجلّات ​المديرية العامة لقوى الامن الداخلي​ بقرارات توقيف ومحاسبة ضباط كبار ينتمون الى «تشكيلة» طائفية وحزبية متنوّعة، ثبُت تورّطهم بملفات فساد، منهم مَن طُرد من السلك أو أحيل الى مجلس تأديبي أو سُجِن وخرج بكفالة، أو حالياً «تحت الرصد».

قبل أشهر، مرّت المؤسسة في قطوع إنتهى «على خير» مع ولادة الحكومة، وذلك بعدما جاهر رئيس الحزب «التقدمي الاشتراكي» ​وليد جنبلاط​ علناً بتغطيته ضابطاً تحوم حوله شبهات فساد، فجاء رفع الغطاء من جانب الزعيم الدرزي لاحقاً ضمن التسوية الوزارية، ما سمح بإعطاء الاذن للقاضية عون باستجواب خمسة ضباط ثم توقيفهم.

وبعد أن سَلك الملف مساره القضائي بعد الممانعة السياسية، قادت تحقيقات «الشعبة» في ملف الفساد القضائي الى فتح ورشة غير مسبوقة لـ «تنظيف» العدلية من السماسرة و«تجّار» الخدمات الخاصة والتنفيعات و«التشبيح» بإسم القانون.

«أباطرة» الفساد لهم أكثر من وجه: قد يكونون على شكل سماسرة، مساعدين قضائيين، قضاة ومرافقيهم، «المباشرين» والكتّاب ورؤساء القلم... وكل «المنتفعين» من الوجود في مدار «أصحاب النفوذ»، وصولاً الى السائق والمرافق.

ترافق ذلك مع قرار رئاسي وسياسي بفتح ورشة جدّية لاقتلاع جذور الفساد من الوزارات والمؤسسات والمَرَافق العامة. لكن، عملياً لا تزال نتائج هذا القرار أكثر من متواضعة وغير مُرضية للرأي العام، طالما انّ «الرؤوس الكبيرة» المشبوهة لا تزال تنعم بالنوم الهانئ على وسادتها، وبعضها يملك من الوقاحة ما يكفي ليُحاضر في العفة، وهو يتفرّج على صغار الموظفين الفاسدين يتمّ اقتيادهم الى الزنزانات.

ولا شيء أبلغ تعبيراً من تعليق أحد المتابعين لملف مكافحة الفساد قائلاً: «تخيلّوا قاضياً من أصحاب الملايين بهمّة فساده وسقوطه الاخلاقي يحقق أو يعطي إشارة قضائية لتوقيف موظف فاسد «سِعره» مئة دولار»!

مصير التحقيقات

لكن، النشاط الاستثنائي لـ«الشعبة» على خط مكافحة الفساد، بالتوازي مع مهماتها الامنية في الملفات الأخرى، لا يححب واقعاً يقرّ فيه ضباط مؤسسة قوى الأمن، وهو أنّ عمل ضباط «المعلومات» يقف في النهاية عند عتبة القضاء، وتحديداً ​النيابة العامة التمييزية​ والتفتيش القضائي. حيث أنّ «مصير» محاضر التحقيقات والتقارير المقرونة بالأدلة الدامغة يبقى معلّقاً على «حبال» قضاء شفاف ونزيه لا يلين مع «نبرة» الاتصالات والضغوط السياسية.

يزداد الأمر تشويقاً، ليس فقط مع عدم القبض حتى الآن على أي سياسي أو مدير عام أو «مسؤول كبير» في الدولة «متلبّساَ» بفساده، بل بعدم «محاسبة» من يظنّ نفسه اليوم أنّه فوق الشبهات، فيسترسل في محاسبة الآخرين. وبعض القضاة على رأس اللائحة منهم معروف بهويته «السياسية» الواضحة، ما يطرح تساؤلات عن «مناعة» القرار السياسي برفع الغطاء عن المرتكبين من القضاة تحديداً، وعدم الوقوف عند «عيّنة» فقط من القضاة الفاسدين.

إعترافات كثير من السماسرة والمساعدين والمستشارين الموقوفين اليوم يمكن أن تقود الى فضح عدد أكبر من القضاة ومستشاري وزراء وشخصيات بارزة وتوقيفهم. لكن حتى اللحظة النتائج متواضعة و»الصدمة الايجابية» لم تحدث بعد. مع العلم انّ الرؤساء الثلاثة ​ميشال عون​ و​نبيه بري​ و​سعد الحريري​ يجزمون في مجالسهم الخاصة أن لا تغطية لأي موظف فاسد مهما كَبُر حجمه!

وما يبدو متوقعاً في حملات من هذا النوع لم تألفها الادارة اللبنانية منذ عقود، قيام «جبهات» مضادة في وجه عمل الاجهزة الامنية بقيادة قضاة من «متحسّسي الرؤوس»، وهذا ما يحصل فعلاً. فضلاً عن «محامين سماسرة» فَضَح بعض الموقوفين أعمالهم، لكن لا يزال قرار رفع الحصانة عن بعضهم قيد الدرس.

وفي حال الرفض، يُتوقع إستئناف المدّعي العام التمييزي القرار أمام ​محكمة الاستئناف​ المدنية في ​بيروت​ برئاسة القاضي أيمن عويدات، الذي يتردّد أنه قد يعيّن رئيساً للتفتيش القضائي مكان القاضي ​بركان سعد​.

«رقبة» القضاة بيد السلطة

وعلى سيرة مكافحة الفساد، تفتح هذه التعيينات العين على مكمن العطب الاساس في السلطة القضائية. المدّعي العام التمييزي ورئيس ​مجلس القضاء الاعلى​ ورئيس التفتيش القضائي ورئيس ​مجلس شورى الدولة​، مواقع لا يزال تعيين القضاة فيها، بحكم القانون، رهن السلطة السياسية (مراسيم تُتخذ في مجلس الوزراء) المُتهمة الأولى بالفساد.

وبالتالي ايجاد آلية تحرّر القضاة من «سطوة» التعيين السياسي يتربّع على عرش الاولويات، هذا إذا صَفت نيات أهل السياسة في مكافحة الفساد!

عملياً، في ما يخصّ القضاة، التفتيش القضائي لا يملك صلاحية اتهام القاضي، بل يرتكز عمله على التحقيق في التِهم المنسوبة للقاضي، واحياناً كثيرة تكون حدود هذه الصلاحية الإيعاز بنقل قاضٍ الى مكان آخر أو رفع تقارير به أو رفع ملفه الى المدّعي العام التمييزي للادّعاء عليه.

اما آلية محاكمة القضاة فتتمّ من خلال إدّعاء المدّعي العام التمييزي على القاضي «المشبوه» ويُحاكم أمام هيئة في ​محكمة التمييز​، وإذا كان قاضياً من رتبة عالية في السلك يَمثل أمام هيئة خاصة.

الاستنسابية لا تزال حتى الساعة السِمة الأبرز في مشروع مكافحة الفساد المفتوح على مصراعيه.

من جهة أخرى، مشهد طوفان مجرور ​الرملة البيضاء​ يدين طبقة بكاملها، لكن حملة «التنظيف» لم تصل بعد الى «المجرور». وثمّة عناوين أخرى تنضح بالفساد لم يقربها أحد بعد لا جهاز أمني ولا قضاء... will wait and see !