ما زالت العشرات من العائلات الفلسطينية داخل المخيمات في ​لبنان​، تنتظر معرفة مصير أبنائها الذين هاجروا من المخيم الى دول اللجوء هربا من اليأس والاحباط، من الفقر والجوع وانعدام فرص العمل، فركبوا البحر والجوّ وساروا في البر، بعضهم تعرض للإعتقال والتعذيب ثم عادوا أدراجهم خائبين، وبعضهم الآخر مات، وبعضهم الثالث لم يصل سالما الى مقصده، فلم يطمئنوا ذويهم بعدما انقطعت اخبارهم وما زالوا مجهولي المصير حتى اليوم.

علاء إبراهيم حمودي (29 عاماً)، أحد هؤلاء المفقودين من أبناء مخيم ​عين الحلوة​، ما زالت عائلته تنتظر بفارغ الصبر خبرا يطفىء نار القلب ويهدئ البال، فقد غادر المخيم متوجهاً إلى أوروبا جوا عن طريق مصر الى ليبيا في تشرين الثاني 2017 وبقي فيها حتى يوم 16 كانون الثاني 2018، ثم انقطعت أخباره ولم يعرف مصيره بعد.

وعلاء واحد من الآف الشبان الفلسطينيين الذين تخرّجوا من الجامعات اللبنانية بشق النفس، ولكنهم لكم يجدوا عملا، تخصّص في إدارة الأعمال، وبقي خمس سنوات من دون عمل، لم يستسلم للامر الواقع وكان يعمل بين الحين والاخر مياوما لكسب قوته، عمل مع جمعيّات اجتماعية مقابل بدل زهيد واضطر للعمل في البناء أو البلاط، إلى أن اصيب بالياس والاحباط، فقرر ​الهجرة​ إلى أوروبا، سعيا وراء حياة كريمة، خصوصاً أنّ أصدقاء له هاجروا بالطريقة نفسها ووصلوا إلى ألمانيا، بقي يعمل مياوما الى ان استطاع خلال فترة خمس سنوات أن يجمع المبلغ المطلوب للسفر.

يروي شقيقه محمد لـ"​النشرة​"، تفاصيل رحلة الهجرة سعيا وراء اللجوء الانساني، فيتذكر جيدا "يوم الثلاثاء 16-2018، عند الساعة العاشرة والنصف ليلاً، يقول: "اتصل أخي علاء وأخبرني أنّه متجه نحو المركب لمغادرة ليبيا وعندما يصل إلى بر الأمان سوف يتصل بي لأطمئن عليه"، قبل ان يضيف بتنهد "لكنّه كان الاتصال الأخير ولم نعرف عن مصيره شيئا، بعدما انقطع التواصل معه حتى اليوم.

ويصبّ محمد جام غضبه على القوى السياسية الفلسطينيّة في لبنان، التي لم تبالِ بمعرفة مصير المفقودين أو توفير متطلبات العيش الكريم لهم في المخيمات، كما على "سماسرة الهجرة"، الذين يسعون الى الربح الوفير دون النظر الى نتائج الأمور، همهم الاول والأخير لأنّ الكلفة هي 11 ألف دولار أميركي، بينما الطريق المحفوف بالمخاطر كلفته 4500 دولار.

يؤكد محمد، "شقيقي علاء ارسل لي رقم هاتف السمسار قبل المغادرة كي أطمئن عليه، وعندما اتصلت به أخبرني أنّهم في حاجة إلى مزيد من الوقت لتصل باخرة إيطاليّة وتنقذهم، وفي اليوم الثاني اتصلت به كان الجواب نفسه ومن بعدها لم يعد يجيب على الاتصالات، وبقي مصير شقيقي مجهولاً، إذ لا أخبار عن غرق مركب في تلك الفترة، ولم يصل إلى أوروبا، علماً أنّه كان يحمل 30 شخصاً من جنسيات مختلفة اختفوا جميعاً".

مع هذه الفرضيّة يرجح محمد أن يكون شقيقه علاء وآخرين كثر من المهاجرين قد اعتقلوا في ليبيا من قبل ميليشات الأمر الواقع وليس السلطات الليبية الشرعية، ويردف "لقد تواصلنا مع أقارب في ليبيا ليبحثوا في السجون، ودفعنا اموالا اكثر من مرة لمعرفة مصيره دون جدوى، شعرنا انها عمليّة نصب واحتيال، ولم نستطع التأكد إن كان حياً أو ميتاً.

ويؤكد محمد، ان بعض اهالي المفقودين في المخيم، إتفقوا على تشكيل "لجنة متابعة" والتواصل مع كافة القوى الفلسطينيّة، لشرح معاناتهم الانسانية المفتوحة على وجع دائم، ومع اللجنة الدولية للصليب الاحمر لمساعدتهم على معرفة مصير أبنائهم بعد هذه المدة الطويلة وكي لا تطوى في ادراج النسيان وغياهب المجهول.

عائلة سعدة

ومع الهجرة التي استفحلت مع طول أمد الأزمة السورية، وفتح الدول الغربيّة أبوابها لاستقبال النازحين، وجد الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين في المخيمات، ومنها عين الحلوة فرصة ذهبيّة لشق طريقهم نحوها، باعوا متاعهم ومنازلهم، وحزموا حقائبهم نحو المجهول، دفعوا ما يملكون من أموال و"ما فوقهم وتحتهم"، بعضهم اعتمد سوريا ممرا، فاعتقل أو قتل، وبعضهم الآخر اعتمد طريق روسيا-النروج، وبعضهم ركب البحر عبر ميناء طرابلس إلى تركيا أو ليبيا، تاه في الصحراء، أو غرق في البحر، فتحولت أجسادهم إلى طعوم للأسماك في مأساة إنسانية مضاعفة، وبعضهم انتهى به الحال في معسكرات اعتقال او مجهول المصير.

عائلة سعدة واحدة من العائلات الفلسطينية التي فقدت ابنها محمد غسان سعدة وزوجته عايدة سعيد بناور وابنهما الطفل شادي الذي يبلغ من العمر سنة ونصف السنة، الذين كانوا قد غادروا ​ليبيا​ يوم الثلاثاء 16 كانون الثاني 2018 عبر البحر من مدينة زوارة باتجاه ​ايطاليا​ وانقطعت أخبارهم منذ ذلك التاريخ.

ومحمّد الذي كان يقيم في مخيّم عين الحلوة، أجبره اليأس على الهجرة غير الشرعية برفقة عائلته، يروي شقيقه أشرف، ان الاوضاع الاقتصاديّة الصعبة والاعاقة البسيطة في قدمه التي تمنعه من العمل الشاق، دفعاه الى الرحيل بعدما اقفلت في وجهه كل سبل العيش الكريم، عمل "سائق تاكسي" لكنّه لم يستطع تأمين المال لشراء لوحة تسجيل عموميّة فكان يستخدم اللوحة السياحية الخاصة، فتحجز سيارته كلّ مرة، ليستدين من أجل دفع قيمة المخالفة، تكرّر الامر اكثر من مرّة الى ان يئس وقرّر الهجرة، فباع أثاث بيته واستدان من أقاربه مبلغاً وتوجه إلى ليبيا للمغادرة إلى أوروبا، لكنّه لم يصل ولم يعد... ولا أحد يعلم عنه شيئا حتّى اليوم.

انتظار قاتل

بالمقابل، وصل بعض الفلسطينيين بسلام، لكنهم لم يجدوا "جنة النعيم" التي توهّموها خطأ وما زالوا يكابدون العناء للحصول على إقامة أو جنسيّة ويعيش مرحلة "انتظار قاتل".

خليل العلي واحد من هؤلاء، هاجر من المخيم الى المانيا مع ابنه ابراهيم بعدما قصد طريق سوريا، تركيا، ومنها مركب في البحر الى اليونان، مقدونيا، صربيا، النمسا وصولا الى المانيا، ومنذ ذلك التاريخ في ايلول العام 2015 وهو يعيش حالة "انتظار قاتل"، تجدّد له السلطات الالمانيّة كل مرة ستة اشهر فقط بعدما رفضت قبول طلب لجوئه، وقد التحقت به عائلته زوجته ابتسام جزيني، ابنه محمد، وبناته "سحر، آية والاء"، يقول في اتصال هاتفي مع "النشرة"، ان اللاجئين الفلسطينيين من لبنان تعاملوا درجة ثانية، حيث تم قبول طلبات لجوء السوريين اولا ثم الفلسطينيين النازحين من سوريا ثانيا وقلة من لاجئي لبنان ثالثا، حتى الان ننتظر قبول طلباتنا وقد قدمنا اعتراضا في المحكمة، صحيح ان الدولة تساعدنا باموال نقدية وتوفير الخدمات الطبية والتعليمية والكهرباء والمياه وحتى القرطاسية، الا اننا نعيش قلق الترحيل ولولا عبارة بلا وطن" لجرى اعادتنا الى لبنان من حيث أتينا".

مؤامرة دولية

وباعتقاد القوى السياسية الفلسطينية في لبنان على مختلف انتماءاتها، فان فتح ابواب الدول الغربية للهجرة شجع أبناء المخيمات على "الهجرة الطوعيّة"، فيما الظروف الاقتصاديّة والماليّة وهشاشة الوضع الامني في بعض المخيّمات، دفع البعض الاخر الى "الهجرة القسريّة"، هربا من الموت والذل، وكلاهما يصب في ذات الخانة: افراغ المخيمات من ابنائها وخاصة جيل الشباب تماشيا مع صفقة القرن الاميركية وصولا الى شطب حق العودة ورفض التوطين.

ويعتبر مسؤول "الجبهة الديمقراطية" في مخيم عين الحلوة فؤاد عثمان لـ"النشرة"، "ان مشروع تهجير اللاجئين الفلسطينين يهدف لحل قضيتهم بعيداً عن تطبيق القرار الصادر عن الامم المتحدة 194 والّذي ينص على حق العودة"، مضيفا "الهجرة مشروع قديم يتجدد وفقاً للظروف السياسية، حيث ظهر بعد أزمة الربيع العربي، اذ استغلت الادارة الاميركية والعدو الصهيوني ما يجري في المنطقة لتمرير المشروع التي ظهرت اهدافه عبر فرض "صفقة القرن" التي أعلنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب من ادراج الادارة الاميركية، مستغلة التفكك العربي وصمت الشرعية الدولية.

وأكد "ان مشاريع تهجير اللاجئين الفلسطينيين من مخيمات لبنان وتشتيتهم اتخذت طابعا قسريا عبر جملة من العوامل منها الاحداث الامنية وشل الحياة الاقتصاديّة وحرمان شعبنا من أبسط حقوقة المدنية والانسانية، ما دفعت ابناء شعبنا لليأس ومن أجل تأمين حياة آمنه لهم، باع المئات من العائلات منازلهم وممتلكاتهم وهجرة غير آمنة، بل راح ضحيتها المئات: اما غرقاً في البحار واما على الحدود فهربوا من المصير المجهول الى الموت المحتوم، ما يجعلنا على يقين بان كل ما يحصل له وظيفة سياسية وهو انهاء قضيه اللاجئين.

وناشد عثمان اللجنة الدولية للصليب الاحمر والامم المتحدة الكشف عن مصير عشرات الشباب والاطفال المفقودين في ليبيا وبينهم فلسطينيون من مخيم عين الحلوة مازال مصيرهم مجهولا، والحكومة الللنانية اقرار الحقوق المدنية والانسانية لحين تحقيق حق العودة وافشال صفقة القرن التي تهدف الى تهجير ابناء المخيمات وتوطين من بقي منهم في لبنان.

غياب الاحصائية

حتى اليوم، لا توجد أرقام رسميّة عن عدد الذين هاجروا من المخيّمات الفلسطينية في لبنان ولجأوا إلى دول الغرب وخاصة ألمانيا، ولكن تقدير "اللجان الشعبية الفلسطينية" أنها لا تقل عن 1500 عائلة ما يقارب 5000 شخص، وهو عدد كبير قياسا بأعداد اللاجئين في المخيمات.

وقد تضافرت عدة عوامل لتجعل من الهجرة مرغوبة بل مطلوبة، الأمن الهش، الضائقة الاقتصادية، البطالة، الفقر والبؤس، اليأس والإحباط، وانسداد أفق العمل في وجه جيل الشباب، فقدان الثقة، غياب جسور التواصل بين القيادة والقاعدة، ناهيك عن عدم الاهتمام بشؤونهم وشجونهم، فشعروا أنهم متروكون لمصيرهم، وفي الحالتين لا فرق عندهم.