افتتحت ​جامعة الحكمة​ مؤتمرها السنوي بعنوان "الأزمات الراهنة ودور الجامعة"، بدعوة من رئيسها الخوري خليل شلفون وبرعاية رئيس أساقفة بيروت ولي الحكمة المطران بولس مطر وحضوره، وبمشاركة أمين عام الجامعة الدكتور ​أنطوان سعد​، ووفود دولية وعربية.

وقد أشار المطران مطر في كلمة للمناسبة الى "أن الحوار بين الثقافات ولا سيما بين الثقافتين ​المسيحية​ و​الإسلام​ية قد تعثر في التاريخ بعد مرور زمن البدايات الذي كان أكثر تسامحا مما آلت إليه الأمور في القرون اللاحقة، ووصولا إلى مشارف عصرنا الحاضر". وقال: "انتظرنا الحلول المطلوبة إزاء هذه الأزمنة الثقافية الكبرى إلى أن بدأت تطل على العالم المسيحي وعلى ​العالم الإسلامي​ معا بعد إعلان نتائج المجمع الفاتيكاني الثاني ونشر نصوصه حول الثقافة بالذات وحول علاقة المسيحية مع الإسلام وحول ​الحرية الدينية​ التي أكد المجمع حق الناس بها، إلى أي دين كان انتماؤهم، وبما فيه الدين المسيحي نفسه".

ولفت كطر الى ان "المجمع الفاتيكاني الثاني عالج موضوع الثقافات بحد ذاته أولا. فأكد أن المسيحية التي عبرت عن نفسها أولا عبر ثقافتها التاريخية قد أقرت في خلال انعقاده أنها قادرة على أن تعبر عن ذاتها وعن عقائدها عبر ثقافات أخرى، شرقا وغربا. فالمسيح لا يتبنى ثقافة واحدة وهو ابن الإنسان ونصير الإنسانية كلها من دون استثناء. وإن كان للشعوب الحق بمعرفة المسيح فإن على الكنيسة واجبا بأن توصل هذه المعرفة إليهم وعبر ثقافاتهم بالذات. فوضعت على بساط البحث من أجل ذلك قضايا (الانثقاف والتثاقف المتبادل) ولو بقي عالقا في الوجدان أن الثقافة التي عبرت المسيحية فيها أولا عن نفسها، تبقى هي المرجع الأساس لأن خبرة روحية قد اكتنزت فيها ولا يمكن التخلي عنها دون خسارة لا تعوض".

وأضاف ان " المسيحية بقيت بعد المجمع كما قبله ثابتة في تأكيدها بأن الوحي الإلهي قد بلغ ذروته بتجسد كلمة الله الأزلية بيسوع المسيح. فهو الذي كشف لنا عن الله أسراره وعن الإيمان كل الحقيقة التي تلقاها من الآب. إلا أن المسيحية بقيت أيضا على إيمانها بأن في كل الأديان قبسا من الحقيقة وأن الإنسان مفطور على التفتيش عن الله بضميره الحي، وأنه لكونه مخلوق على صورة الله ومثاله يسعى بكل طاقاته إلى التفتيش عن المثال الذي طبعت فيه صورته منذ ولادته، وهي ملازمة له حتى الرمق الأخير. فكما يقول الإسلام إن في الإنجيل "هدى ونور"، هكذا تقول المسيحية بأن المسلمين يعبدون الله عبادة حقة وأنهم يؤمنون به وبثوابه وعقابه وباليوم الآخر ويحفظون في قلوبهم وفي عقيدتهم قيما سامية تسهم في بناء الإنسانية وتغنيها. وهم أيضا يكرمون مريم العذراء أم المسيح إلى حد أن القرآن يدعوها "سيدة نساء العالمين". وكم يسعدنا في ​لبنان​ بأن تكون دولتنا قد قررت اعتبار عيد "بشارة مريم" عيدا وطنيا لجميع اللبنانيين، لكي نقف معا في مثل هذا اليوم في مناجاة تصعد عن قلوب المسيحيين والمسلمين الملتقين على قلب واحد وفي مكان واحد".

وشدّد المطران مطر على ان "لقد أقر المجمع بأن للمؤمنين من كل الأديان الحق بأن يعتنقوا الدين الذي يريدون، وذلك باسم الحرية المعطاة من الله إلى كل إنسان. فلا تكفير للآخر ولا استباحة لحياته بل إقرار بأن ما من أحد هو حسيب ولا رقيب لغيره مكان الله، ولا اعتبار لأي إنسان أو لأي مرجع بأنه يصل إلى مرتبة ظل الله على الأرض".

وقال: "كما يسعدنا أن نجد عند المسيحيين انفتاحا على إخوانهم المسلمين، فإننا نجد مثيله أيضا عند المسلمين الذين يرون في الانفتاح على المسيحيين جزءا من قناعاتهم الدينية بالذات. إن هذا الموقف يعتنقه ​المسلمون​ الذين يعودون إلى كتابهم وإلى منطلقات إيمانهم الأولى كما وردت في القرآن، وفي التقليد الإسلامي السابق لمرحلة التشنج الثقافي المؤدي إلى رفض الآخر كأخ أو كمواطن مكتمل الحقوق. فنذكر في هذا المجال وبكل فخر الدستور الأول للدولة الإسلامية كما أراده النبي العربي منذ البدايات. وقد جاء فيه أن المسيحيين هم جزء من أمة المسلمين. إنه قول له كل القوة في الإدراك الإسلامي لحقائق الأمور. فالمسيحيون ليسوا في الإسلام مجرد أقليات تؤمن لها الحماية، لأنهم على ذمته. بل هم من أهل الكتاب، ولا علاقة لهذه التسمية بقلة عددهم، أي أنهم في صلب الإيمان الإسلامي ولن يكونوا يوما غرباء عن المسلمين وبخاصة على هذه الأرض المشرقية المشتركة فيما بينهم جميعا".

واعتبر ان "استنادا إلى ذلك، رفض المتنورون من إخواننا المسلمين كل ما جرى على يد داعش في الموصل وفي سهل نينوى على أرض العراق من اعتداءات، حيث قتل المسيحيون وطردوا من ديارهم دون أن يكونوا على إخوانهم المسلمين من المعتدين. وعلى هذا الأساس تدخل أهل الخير من إخواننا المسلمين، وكان انعقاد لأربع مؤتمرات في القاهرة برئاسة سماحة الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر وقد صدر عنها بيانات أفصحت لأول مرة بأن المسيحيين والمسلمين هم أخوة واعتبرت أيضا أن هؤلاء المعتدين على المسيحيين قد خرجوا على الإسلام ويجب منعهم من إكمال هذه الأعمال المسيئة للإسلام قبل المسيحية. وقد شارك قداسة البابا فرنسيس في المؤتمر الأخير للأزهر وكانت له كلمة مباركة عاد وكررها في أبو ظبي بحضور الشيخ أحمد الطيب نفسه، ووقع وإياه وثيقة من أهم الوثائق المشتركة في الزمن الراهن، لا بل هي أهمها لأنها تدعو إلى تطور ثقافي عند عامة الشعب عن طريق المدارس والجامعات لنصل جميعا إلى هذا الموقف الأخوي الجامع، فيكتمل عندنا الحوار الذي سيفيد حتما من هذه الثقافة الإسلامية المنفتحة التي استندت إلى أسس البدايات الإسلامية نفسها وإلى القيم الإسلامية الكريمة والتي سيصاغ في ظلها وفي ظل المسيحية الحقة مستقبل أكثر إشراقا للإنسانية كلها".

وتمنّى مطر في الختام "على رئيس جامعة الحكمة أن تفتتح في تشرين القادم كرسيا للحوار الديني بين المسيحية والإسلام. والواجب عليها أن تكمل هذا التراث الثقافي الأصيل لتتابع رسالتها في هذا الوطن العزيز لبنان، وهي رسالة الأخوة الإسلامية المسيحية لا في الإنسانية وحسب بل أيضا في الوطنية، وفي صياغة مستقبل زاهر للمنطقة وللعالم كله

كما ألقى أمين عام الجامعة الدكتور أنطوان سعد كلمة قدم فيها المؤتمر، وقال: "في هذا المؤتمر مداخلات تقارب عناوينها أزمات عميقة تقلق البشرية وترهق مسارها وهي ازمة الحضارات في حراكها وتقاطعها وعلاقاتها بغيرها وبالناس وبالتاريخ، وازمة العائلات والتي وهي نواة المجتمعات التي تعيش معاناة تمتحن ايمانها وتهدد كيانها نتيجة عوامل عدة، جوهرية او عرضية وهي، بجوهرها، أدبية وأخلاقية. ودور الجامعات في الوقوف على خط المواجهة".