يحاذر الرئيس سعد الحريري أن يأخذ على عاتقه منفرداً الترويج لمسألة خفض الرواتب أو الدفاع عنها، وإن يكن مقتنعاً في قرارة نفسه، على الأرجح، أنها شرٌّ لا بدّ منه، عاجلاً أم آجلاً. وعليه، لم يتأخر الحريري والقريبون منه في إنكار وجود «صلة قربى» بينه وبين الورقة المالية التي نُسبت أبوّتُها اليه. بالنسبة الى الحريري، يجب أن يشمل «مقصّ» الخفض معظم بنود الموازنة، وهو يعتبر أنه ينبغي إخضاعها الى النقاش العلمي والموضوعي للوصول الى افضل نتيجة ممكنة.

يعرف الحريري جيدا انّ دواء خفض المعاشات، الذي قد يصبح تجرّعه ضرورياً في نهاية المطاف، سيكون مذاقه مُرّا وسيرتب عوارض جانبية، نظرا الى تداعياته ومفاعيله السلبية على المستوى الشعبي. ولذلك يسعى رئيس الحكومة الى تحصين أيّ قرار محتمل من هذا النوع بأوسع توافق وطني- سياسي ممكن، لأن أيّ جهة لا تستطيع وحدها أن تتحمل عواقبه.

حتى الآن، لا يزال طرح خفض الرواتب واحداً من المقترحات التي تُدرس في «بيت الوسط» وكذلك في مقرات أخرى، فيما يحرص المحيطون بالحريري على الجزم أنه لم يُتخذ بعد قرار نهائي وحاسم في هذا الشأن الى حين انتهاء المشاورات والنقاشات المتصلة بمشروع الموازنة وبمسار السياسات الاقتصادية والمالية في المرحلة المقبلة.

ومن باب السعي الى التخفيف من وطأة «القضم» المحتمل لمعاشات موظفي القطاع العام، يؤكد مستشار بارز للحريري، انّ المطروح للبحث هو تجميد موقت لجزء من الزيادات التي حصل عليها الموظفون بموجب سلسلة الرتب والرواتب، وليس الاقتطاع الدائم لهذا الجزء، ملاحظاً انه تبيّن انّ «السلسلة» المعتمَدة كانت أقرب الى قفزة متهوّرة في المجهول منها الى علاج مدروس، أولاً، لأنّ حسبة الارقام افتقرت الى الدقة، وثانياً لأنّ المجلس الدستوري أوقف ضريبتين كانتا ستساهمان في زيادة مداخيل الخزينة، والنتيجة انّ الدولة «فاتت بالحيط» واصبحت امام خيارات قاسية، ليثبت أنّ الحق مع الرئيس فؤاد السنيورة في اعتراضه منذ الاساس على طريقة مقاربة هذا الملف.

وإزاء الإنسداد في شرايين جسم الدولة تحت وطأة تراكم الدين والعجز والفساد والهدر، بات الحريري على إقتناع تام بأن الخروج من المأزق لا يكون سوى بإعتماد المعادلة الآتية للسنوات الأربع المقبلة: تقليص الإنفاق الجاري غير المجدي، وزيادة الإنفاق الاستثماري والمنتج، وهو يدفع في اتجاه أن تشكل هذه المعادلة قاعدة الموازنة والسياسات الاقتصادية - المالية خلال المرحلة المقبلة.

لقد بات الحريري يشعر أن القطاع العام انتفخ في حجمه وأعبائه الى الحدّ الذي تجاوز الخط الاحمر، وهو مقتنع انّ زيادة الرواتب من دون أن تواكبها زيادة الانتاجية ساهمت في تفاقم المأزق وتمدده، الأمر الذي يستوجب اتخاذ تدابير وقائية وعلاجية، تحاكي جوهر الأزمة واسبابها ولا تكتفي بمقاربة قشورها ونتائجها.

لكنّ رئيس الحكومة يرفض في الوقت نفسه، على ما تؤكد أوساطه، أن تصيب هذه التدابير الفقراء الذين هم ضحايا الازمة ولا يجب أن يكونوا ايضا ضحايا الحل، مع الاشارة الى انّ تعريف «الفقير» في لبنان غير واضح، وحدوده غير مرسومة بدقة، ما يهدّد بأن تصيب شظايا الاجراءات المتوقعة فئات غير ميسورة، إلّا انها ليست مصنّفة على هذا النحو لدى السلطة.

وما يُطمئن الحريري، وفق العارفين بتفاصيل موقفه، إحساسه بأنّ معظم القوى الداخلية تتصرف بمقدار كبير من النضوج السياسي والتحسّس بمخاطر التحدي المصيري الذي يواجه لبنان.

وعُلم انّ «بيت الوسط» أبدى ارتياحه الى الشق الداخلي من الخطاب الأخير للأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله، واضعا إياه في خانة الكلام المسؤول والموزون «خصوصا لجهة رفضه تبادل الاتّهامات ورمي المسؤوليات بعضنا على بعض، وتأكيده انّ الجميع يجب أن يكونوا شركاء في الحل».

وماذا عن مساهمة المصارف في ورشة الانقاذ المالي؟

يبدو واضحا انّ الحريري يحاول تقليص حصة القطاع المصرفي من التضحيات المفترضة، أو على الاقل، يتجنب أن يضعه حالياً في الصفوف الامامية لهذه المعركة الانقاذية.

وهناك في محيط رئيس الحكومة مَن يلفت الى انّ المصارف «أدّت قسطها للعلى» ولا يجوز تحميلها مزيداً من الاعباء الثقيلة، «كونها تدفع اصلاً 50 في المئة من ارباحها ضرائب سنوية، بل إنّ نسبة ما يسدده بعضها تبلغ 65 في المئة ربطاً بحجم الاكتتاب في الخزينة، وبالتالي فإنّ الضرائب المستوفاة من هذا القطاع هي الأعلى قياساً الى المجالات الأُخرى في لبنان».

ويحذّر أصحاب هذا الرأي ضمن الدائرة اللصيقة بالحريري من انّ ارباح المصارف قد تتراجع كثيرا هذه السنة في ظل زيادة الفوائد وتراجع الودائع، مشيرين الى أنه لا يجوز أن يُطلب اليها تقديم مساهمات او تضحيات إضافية قبل تحقيق الاصلاحات التي التزمت بها الدولة، خصوصاً انّ التجارب السابقة لا تُشجّع، حيث سبق للمصارف أن فعلت ما يتوجب عليها بينما أخفقت السلطة في تنفيذ الاصلاحات المطلوبة منها.

وردا على مقولة انّ القطاع المصرفي هو الأقوى والأغنى في لبنان، يعلق أحد القريبين من الحريري قائلاً: «كان يا ما كان»..