تنقلب الحياة في ​مدينة صيدا​ رأسا على عقب خلال ​شهر رمضان​ المبارك، فالمدينة المشهورة باقفال محالها التجارية مساء والنوم باكرا، تعيش هذه الأيام حركة ناشطة، تكاد لا تغفو، اذ ينقلب ليل المدينة القديمة نهاراً نابضاً بالحياة والفرح، تمتد حتى منتصف الليل وفترة السحور، وقد ساهم فيها اعلان النائب بهيّة الحريري "صيدا مدينة رمضانيّة" بإشراف البلديّة وبالتعاون مع مؤسسات ​المجتمع المدني​ والأهلي، وقيام فاعلياتها السياسيّة والاهلية بجولات يوميّة في احياء ​صيدا القديمة​ حيث محور الحركة والنشاط.

قراءة هذه الحركة الناشطة، لا تقتصر على الاحتفاء بشهر الرحمة والمغفرة، فهي تحاول ان تجمع بين روحيّة الشهر الفضيل بعباداته وعاداته والتي تبدو مظاهرها جليّة في الزينة والانوار، وفي ارتياد المساجد واقامة الصلوات الخمس والتراويح، وتنظيم الامسيات الانشادية وافطار المحتاجين ومساعدة الفقراء وغيرها الكثير، وانما محاولة لتنشيط الركود الاقتصادي والتجاري المؤلمين، عبر مسارين: الاول دعوات خاصة للوزراء والنواب والسفراء العرب والاجانب الى زيارة المدينة ليلا والاستمتاع ببهجة رمضان، والثاني تشجيع الزوار على المجيء اليها والسهر فيها، وسط تقديم اشكال متنوعة من الطعام والشراب التي تلائم الشهر الفضيل وباسعار مناسبة، على ان تستكمل بقرار من ​جمعية تجار صيدا وضواحيها​ بفتح اسواق الميدنة التجارية ليلا في العشر الاواخر حتى ليلة ​عيد الفطر​، ودعوة التجار لتقديم التنزيلات على بضائعهم، تزامنا مع ازدحام الارصفة بالبسطات والاكشاك والعربات الثابتة والمتحركة لبيع الماكولات والالبسة والحلويات والالعاب في مشهدية متكاملة بين الاحياء والاسواق.

رمضان صيدا هذا العام لا يشبه سابقاته، حيث تزدحم الاحياء القديمة ومقاهيها الشعبية بدءا من ​خان الافرنج​، مرورا بقلبها ساحة باب السراي، "قهوة الإزاز"، متحف الصابون التابع لمؤسسة عودة، حمام الجديد، دار علي حمود الأثري (مدرسة عائشة أم المؤمنين سابقا–أكاديمية علا حاليا)، خان صاصي ومتحف قصر دبانة وغيرهم، ولا تتوقف هنا فقط، بل تشمل الأحياء القديمة والساحات التراثية ومنها ساحة "ضهر المير" و"رجال الأربعين" وحديقة الزويتيني... وفي كل منها تقام أنشطة احتفالية تنظمها مؤسسات اهليّة بالتعاون مع البلدية ضمن "فعاليات المدينة الرمضانية".

ما يميز الحركة اليوم، ان غالبية الزوار والساهرين من جيل الشباب، يعطون المدينة رونقا جديدا في رمضان يختلف عن ايام زمان، الكثير من العائلات، القليل من كبار السن، مِن هؤلاء الشباب مَن يحاول ان يعيد للمدينة القديمة ذكرياتها، فيحضر الحكواتي في بعض الاماكن، والبعض الاخر يقصد مقاه تراثية ارتبطت بذاكرة المدينة واعاد القيمون عليها تقديمها بحلة جديدة، فضلا عن مقاه افتتحت حديثا بمبادرات فردية مثل "خان الأمير" و"شرقي" و"صيداوي"، بينما يجول المسحّراتي عباس قطيش بلباسه التراثي الوافد من الازقة الضيقة مع طبلته وفانوسه المضيء، ينقر طبلته ويصدح بصوته "اصحى يا نايم... رمضان كريم"، ليدعو الناس الى السحور على ثلاث جولات الاولى منها تراثية.

وما يميز الحركة، الاقبال الكثيف على "النرجيلة" بأنواعها المختلفة "المعسل والتنباك والعجمي" مع الشراب الرمضاني من "جلاب وتمر هندي وعرق سوس"، وبينهما القهوة والشاي وغالباً ما يتناول الساهرون طعام السحور الذي يتنوع بين المناقيش بالجبنة والزعتر والكشك، الفول والحمص فهذا "الأكل الثقيل" في شهور السنة على "بطون" المواطنين، يتحول في رمضان الى "ضيف خفيف" يطلبه الزبائن لسد رمق جوعهم خلال ساعات النهار. فتختلط أصوات "معلمي" المقاهي مع طلبات الزبائن، "نارة يا صبي"، "واحد قهوة سادة،" "منقوشة بلا سمسم" وسواها من "النداءات" تدل بوضوح على نوعية الطعام والشراب المفضل في هذا الشهر الفضيل.

وما يميز رمضان صيدا، صناعة الحلويات التي​ تبلغ ذروتها، تتعدد وتتنوع بمختلف الاصناف والاشكال في هذا الشهر الفضيل، لترسم معادلة ثلاثية الابعاد بين الحلويات وصيدا ورمضان، وهي تتجاوز حدود "التحلية"، الى سند للصائم في "مخزون احتياطيّ" له أثناء صومه، اذ تعطيه طاقة اضافية تساعده على تحمل الجوع والعطش خلال النهار ​ ​ وخصوصا في فصل الصيف.

وقد تطورت صناعة الحلويات في مدينة صيدا، لتخرج من الأزقة القديمة "البلد"، ولكنها في نفس الوقت حافظت على الحلويات التراثية، رغم تطور أدوات صناعة الحلويات مثل استبدال "القمع" لصناعة "القطايف" بماكينة جديدة تسهل سكب العجينة، فيما تحولت "التمريّة" الى "الكلاّج" وتقلص وقت صناعة "اللقطين والجزريّة"، لتشهد صناعة "العثمليّة والمدلوقة وحلاوة الجبن" لمسات جديدة، فيما يشجع زيادة الطلب من قبل الزبائن على ابتكار أصناف جديدة، ومنها الدمج بين الحلويات العربيّة والغربيّة وإدخال نكهات جديدة، كل ذلك جعل الحلويات الصيداويّة تأخذ موقعاً مميزاً بين الحلويات اللبنانيّة وكثيرا ما تحولت تصديرا الى كافة أنحاء العالم.

وكعادة بعض أبناء المدينة وخاصة اصحاب المقاهي خارج دائرة المدينة القديمة والكورنيش البحري، لا يخفون عتبهم، اذ يحضر شهر رمضان في تلك المناطق ويغيب عنهم، ليجمع النقيض بين الحركة والركود والشكر والشكوى، وبين "الشاكرين" و"الشاكين" يتوحّد التمنّي بأن تنجح الجهود المبذولة على اكثر من صعيد، في استدامة مثل هذه الحركة ولا ينتهي مع حلول عيد الفطر المبارك ولو في عطلة نهاية الاسبوع على الاقل، قناعة بضرورة الاهتمام بالبشر توازيا مع الحجر، ودعم مصادر رزقهم وتنشيط بيع بضائعهم ووقف مسلسل الاقفال والافلاس الذي بات يؤرق كثير منهم، نقيضاً ليافطات رفعت "بالشكر تدوم النعم".