أخذ التوتّر الأميركي ـ الإيراني في الخليج مداه، وقد أدّى غايته. لكن مستوى الخطورة التي كان وصل اليها، حتّم على الجميع خفض سقف المناورات والعودة الى ضبط اللعبة جيداً، طالما أنّ الحرب ليست في وارد أيٍّ من الطرفين. ومعه كان لا بدّ من التراجع قليلاً الى الوراء خشية دخول «لاعب صغير» على الخط لدفع الأمور في اتجاه انزلاقات غير محسوبة، ما سيجعل العودة عن المواجهة مسألةً صعبةً جداً.

إيران وجّهت رسائلها المدروسة بدقّة، وحقّقت ما تريد لجهة استعادة اعتبارها، وهي تتّجه الى مفاوضات غير مباشرة مع واشنطن عبر الوسيط العُماني، ولا حاجة لتفسير زيارة وزير الخارجية العُماني يوسف بن علوي لطهران، بُعيد الاتصال الهاتفي الذي أجراه معه وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو.

وفي الجانب الأميركي أرسل الكونغرس الأميركي «السلّم» لدونالد ترامب ليساعده في النزول عن الشجرة، من خلال فتح جلسات الاستماع إلى وزير الخارجية والقائم بأعمال وزارة الدفاع ورئيس الأركان.

وسعى الجانبان الأميركي والإيراني، للاحتفاظ بورقة التين من خلال تسجيل مواقف دفاعية، كمثل تلويح كلّ طرف بالويل والثبور وعظائم الأمور إذا هاجمه الفريق الآخر عسكرياً. لكن اللافت أنّ واشنطن حذّرت طهران من مهاجمة قواتها العسكرية ومصالحها المباشرة فقط لا غير.

إذا، المفاوضات غير المباشرة بدأت، بغض النظر عمّا يمكن أن تحققه. وسيصعب على الجميع معرفة تفاصيل ما سيدور في الأروقة العُمانية، خصوصاً أن التجارب السابقة أظهرت بشكل حاسم حرص سلطنة عُمان على إحاطة وساطتها بسور فولاذي، وهو ما أراح طهران وجعلها تتمسّك بالوساطة العُمانية.

في اختصار قد نشعر ببعض المؤشرات، سلبيةً كانت أم إيجابيةً، لكننا لن نستطيع رؤية ما سيحصل. لكن بلا شك، فإن أول ما ستطلبه طهران هو استعادة تصديرها للنفط، لما يفوق الـ 800 ألف برميل يومياً وهو ما يشكّل خطاً أحمر لديها، يسمح لها بإدخال العملة الصعبة الى خزينتها.

وليس بعيداً، يستعدّ البيت الأبيض للبدء في طرح خطّة «صفقة القرن» في المؤتمر الاقتصادي الذي سيُعقد في البحرين في 25 و26 حزيران المقبل بمشاركة إسرائيل. ولا شكّ في أنّ الإدارة الأميركية ستستفيد من آثار التوتّر الذي شهده الخليج مع إيران، لدفع الدول العربية إلى المساهمة في تركيز دعائم

«صفقة القرن».

كما أنّ واشنطن قد تكون تأمل في انتزاع عدم معارضة إيران، على الأقل، بعض جوانب الخطة الأميركية. لكن الافتراض أن «صفقة القرن» ستطاول فقط تنظيم العلاقة الاسرائيلية - الفلسطينية وفق واقع جديد، هو سذاجة كاملة وسطحية ما بعدها سطحية، في مقاربة مسائل بهذه الأهمية، ولمنطقة تتفكّك على نار الحروب وسخاء الدماء.

ففي إسرائيل حكومة يمينية ستتشكّل، وتضمّ متطرّفين في صفوفها.

وفي الجانب الفلسطيني، واقع صعب ومعقّد، واحتمال انهيار الوضع في الضفة الغربية في حال صعوبة تأمين السلطة الفلسطينية الغطاء المطلوب.

وفي غزة ظهورٌ أقوى وأفعل لحركة «الجهاد الإسلامي» الشريك الأساسي لإيران، أضف الى ذلك التأثير القوي لطهران على الجناح العسكري لحركة «حماس» في مقابل إمساك قطر بالقيادة السياسية. صورة صعبة في حاجة الى تأمين غطاء إقليمي واسع يشمل طهران، ولو أنّ البعض يطرح تنفيذ إسرائيل ضربة عسكرية جوية عنيفة لغزة تشكّل مدخلاً لإدخالها الى «صفقة القرن».

في اختصار الواقع الفلسطيني يهدّد بتفجير الشرق الأوسط مجدداً، وبإحداث انقلاب في صورته. على سبيل المثال، الجميع يعرف أن أحد أبرز مطالب اليمين الاسرائيلي المتطرّف هو تحقيق يهودية إسرائيل وإخراج العرب من الكيان الاسرائيلي.

وفي الثامن من أيار الجاري، وافق مجلس الشورى السعودي على مشروع نظام الإقامة المميّزة، أي الإقامة الدائمة لمواطني دول أخرى في المملكة، تمنح صاحبها عدداً من المزايا من ضمنها ممارسة الأعمال التجارية وفق ضوابط محدّدة.

من جهتها قالت صحيفة «غلوبس» الاسرائيلية إنّ هذا المشروع سيشمل المواطنين العرب الإسرائيليين. لكن هنالك من يطرح أكثر من ذلك في إسرائيل، وطرحه يقوم على استعادة ما عُرف بـ«مشروع أرييل شارون»، والذي يرتكز على نقل عرب إسرائيل الى الأردن وإنشاء الوطن الفلسطيني على جزء من أرضه.

وتشير تقديرات إسرائيلية الى أن الأردن قد يتعرّض في المستقبل القريب لأزمات جدّية ترسم تحدّيات أمام استقرار النظام الملكي. وأشار الباحث في معهد أبحاث الأمن القومي في جامعة تل ابيب، السفير الاسرائيلي الأسبق في عمان عوديد عيران، الى هذا الاحتمال.

ففي الأردن وضع اقتصادي صعب، نجح الملك في الحدّ من ارتداداته السلبيّة وامتصاص حالة الغليان، عقب موجة «الربيع العربي». لكن الواقع الاقتصادي ما يزال صعباً مع ارتفاع نسبة البطالة عند الشباب، لتصل الى 42% وفق صندوق النقد الدولي. ويلعب عامل النازحين السوريين البالغ عددهم زهاء مليون ونصف مليون نازح، دوراً في طرح التحدّيات الاقتصادية.

وفيما يرفض الملك الأردني أيّ حلّ للنزاع الفلسطيني ـ الاسرائيلي لا يقوم على أساس قيام الدولتين، إلّا أنّ «صفقة القرن» الغامضة تُعزّز التشاؤم والقلق.

وفي لبنان، نازحون سوريون وواقع اقتصادي كارثي، وتآكل لهيبة الدولة وحضورها، واهتراء لمؤسساتها، ولاجئون فلسطينيون.

من هنا فإنّ النظر الى المفاوضات الأميركية - الإيرانية ولو عبر وسيط من زاوية ضيّقة، هو تبسيط قاتل.