خرج لبنان من مرحلة النزاع المسلح عام 1990 منقسما على نفسه بين مؤيد ل​اتفاق الطائف​ ومعارضا له. وكانت شريحة كبرى من الرأي المسيحي تنظر سلبيا الى الاتفاق والى كل من لعب دورا في صياغته أو تسويقه أو توفير غطاء له.

ورغم بركته لتسوية الطائف لم يتأخر البطريرك في الوقوف ضد النظام السياسي والأمني السوري اللبناني عندما لجأ أركان هذا النظام الى الممارسات القمعية والتهميشية سياسيا واجتماعيا. وقد تفاجأ الكثيرون – وانا منهم – بصلابة البطريرك مقارنة بالانطباع الذي سرى عنه ابان طبخة اتفاق الطائف.

بدأت بالتواصل مع غبطته وفريق عمله في منتصف التسعينات ضمن مجموعة من الناشطين الحقوقيين وان كان أسلوبه هادئا الا انه كان يتابع كل ملف حقوقي حملناه له خلال زياراتنا المتكررة. لم يوفق غبطته في تغيير سلوكيات ​النظام السوري​ اللبناني بشكل عام الا ان مداخلاته و عظات أيام الأحاد أصبحت من مقومات صمود القوى السياسية المناهضة للدور السوري في لبنان أنداك. لدرجة أن محتوى عظات البطريرك أصبح هاجسا لبعض السياسيين والأمنيين الموالين ل​سوريا​ حتى باتوا يتساءلون ويسألون كيف ستكون "ضربة الأحد" كما وصفها أحدهم امامي في 1998.

في نهاية عام 1996 قامت الأجهزة ألأمنية في لبنان بحملة اعتقالات واسعة طالت عشرات من النشطاء السياسيين والحقوقيين. وبدأ يتوافد الى ​بكركي​ العديد من السياسيين والأمنيين وغيرهم اما لتبرير هذه الحملة أو حث البطريرك على التصعيد. لم يغرق غبطته في بحر المعطيات المتناقضة التي وفرها له زوار الصرح كما تخوف البعض بل لجأ الى تظهير موقف صلب ومقاوم واضح عندما أعلن عدم استقبال المهنئين بمناسبة عيد الميلاد تنديدا بالاعتقالات.

في هذه الفترة كنت أزوره أو اتواصل مع فريق عمله يوميا لاطلاعه على نتيجة الضغط الدولي الذي قاده آنذاك الاتحاد الأوروبي و​فرنسا​ والولايات المتحدة.

رغم قرار بكركي بعدم تلقي التهاني أصر الرئيس الهراوي آنذاك على الحضور فترأس البطريرك الذبيحة الاهية ولكنه لم يستقبله رسميا كما درجت العادة. في اليوم التالي قمت أنا وبعض الناشطين بزيارة الصرح للتأكد من عدم تراجع البطريرك عن قراره فوجدناه مصر أكثر على التعبير عن استيائه من حملة الاعتقالات وقال لنا بهدوئه المعهود: الكنيسة لا تقفل بوجه أحد حتى الخطأة". خرجنا بعدها مطمئنين أن سيد بكركي مقاوم صلب ولكنه أيضا ملم بأخلاقيات المقاومة في وقت ندرت فيه الأخلاق.

فليرحم الله الكاردينال صفير و ينعم علينا بقادة زمنيين و روحيين يجيدون انجاز مهامهم دون انحراف.