غاب رئيس ​الحكومة​ ​سعد الحريري​ عن المشهد السياسي في الأيام الماضية، تاركاً الأزمات تأخذ مداها، صدفة أو عن قصد. لا أحد يعلم ماذا يدور في ذهن الحريري إزاء الإشتباك السياسي القائم بين أهل بيته من جهة وحليفه وزير الخارجية جبران باسيل من جهة ثانية. هل اراد "الشيخ سعد" تغييب نفسه وترك المساحة اللبنانية لملائكته؟ ربما يقول أنصاره وإعلامه ما لا يريد كرئيس للحكومة ان يقوله. خصوصا ان الحريري بقي يسعى للتمسّك بالتسوية الرئاسية التي أوصلته الى السراي الحكومي رئيساً للحكومة.

يقول متابعون أن "الشيخ سعد دأب في الفترة الماضية على مجاراة التيار الوطني الحر في كل شيء، لأن ما يجمعه مع باسيل اكبر مما يفرقهما، وتحديداً في شأن توزيع النفوذ السلطوي ونتائجه". لكن ثمة معطيات إقليمية جديدة طرأت في الأسابيع الماضية، وجرى إستحضارها داخلياً، خلطت الاوراق السياسية، ووضعت الحريري في خانة الإرباك، فسبّبت أزمة في البيت السنّي:

أولاً- ظهور مؤشرات دولية تفيد بأن الأميركيين قرروا سلوك درب التفاوض مع الإيرانيين عبر رسائل واضحة بانت مؤشراتها بالفعل من خلال خفض سقف التهديدات المتبادلة بين واشنطن وطهران. هذا ما لمسته الدول الخليجية التي تخشى تسويات إقليمية واردة على حسابها.

ثانيا- عقدت ​السعودية​ ثلاث قمم في مكة لمحاصرة إيران، لكنّ قطر شغلت الخليج نتيجة إصرار الدوحة على ثباتها عند موقفها وعدم الدخول في السرب السعودي-الإماراتي ضد طهران وأنقره، وصار نقاش ما بعد القمة حول تباين القطريين لا بشأن القدرة على مواجهة الإيرانيين.

ثالثا- رَفع الإيرانيون والسعوديون من كلامهم التصعيدي المتبادل. بالتزامن أقدم الحوثيون على تنفيذ خطوات الدخول الى مناطق سعودية في نجران آلمت الرياض بشدة، وأوحت أن اي تفاوض إقليمي مطروح سيستند الى قواعد الإشتباك الميداني على الأرض، مما يشكّل خسارة للسعوديين.

كل ذلك يشير إلى أن ثمة تغييرات خارجية ستُترجم في لبنان. وبينما كانت توحي خطوات رئيس الحكومة بالتردد، جاء كلام باسيل عن السنّية السياسية يُحرج الحريري شخصياً، ويزيد من الإرباك القائم لديه. لم يكن كلام باسيل هو الأول من نوعه. سبق وقال كلاماً تصعيدياً اكثر حدّة ولم يرد عليه أحد. فلماذا الآن إستنفرت قوى سنّية؟ هناك من يختصر السبب بالأزمة التي يمر بها البيت السياسي السنّي في لبنان، ومحاولة التيار "الأزرق" الإيحاء للرياض بالتصدّي.

وإذا كان وزراء ونواب وقياديون في التيار الأزرق وإعلام "المستقبل" تصدّوا لكلام باسيل بتصريحات شديدة اللهجة، فإن خطوة رؤساء الحكومات السابقين هي الأكثر ثقلاً، بإعتبار ان رئيس الحكومة السابق ​نجيب ميقاتي​ هو الركن الأساسي في اللقاء، لأن الرئيسين السابقين للحكومة ​فؤاد السنيورة​ و​تمام سلام​ هما في ذات موقع وهوى ومسار الحريري، بينما يُعتبر ميقاتي الشخصية السنّية الأولى التي تنافس الحريري على الزعامة ورئاسة الحكومة بشكل طبيعي.

يرى سياسيون طرابلسيون أن التهجم على ميقاتي جاء نتيجة دوره في إجتماعات رؤساء الحكومة السابقين في بيت الوسط ثم في المصيطبة، "لأنه يشكّل ثقلاً سياسياً مستقلاً". حتى الآن لم يغرّد ميقاتي خارج سرب الطائفة السنّية، لا بل يبدو اكثر صلابة من الحريري بأشواط دفاعاً عن مكتسباتها وحقوقها وإمتيازاتها السياسية، ولذلك يُعلن التمسك بإتفاق الطائف وعدم السماح بالمس به. يعتبر المطّلعون ان ميقاتي هو المحرّك الأساسي لإجتماعات رؤساء الحكومات السابقين، الذي يستطيع ان يقول ما لا يقدر الحريري على قوله.

لكن، إذا كانت التسويات التي تطل إقليميا تمضي قدماً، رغم الأصوات المعترضة العالية، ماذا عن وضع القوى السنية في لبنان؟.

هناك من يتحدث عن سيناريوهات عدة:

أ- عدم قدرة الحريري على مواكبة المستجدات، رغم أن كل قدامى قوى "8 آذار" تفضّله رئيساً للحكومة، وتسعى لبقائه حليفاً غير مباشر لها. مما يعني ان وضع الحكومة يتأرجح بين الجمود الحالي او السقوط.

ب- محاولة قوى تشويه سمعة ميقاتي مثلاً في موضوع طرابلس الأخير لحرق إسمه كمرشح مقتدر دائم لرئاسة الحكومة.

ج- تشتّت السياسيين السنّة في لبنان بسبب اختلاف حساباتهم الإقليمية وعدم قدرة السعودية على الحسم او فرض رؤيتها.

د- القلق من التصرفات الأميركية في المنطقة، وامكانية نجاح المفاوضات الإيرانية مع واشنطن في المرحلة المقبلة، او ان تحلّ نتائجها على حساب نفوذ وأدوار السعودية وحلفائها.

كلّه يعني ان البلد باق في أزماته التي باتت لا تُحتمل إقتصادياً. المعالجة المعيشية هي الأساس، لا البقاء عند حافة الخلافات السياسية الضيقة.