بينما كان الجميع دون استثناء، منشغلين باستكمال تجهيزات ​عيد الفطر​ السعيد، حتى باغتهم الخبر.نزل عليهم كالصاعقة. وسادت هَمْروجةٌ من الأخبار والروايات التي أرعبتْ كثيرين وفَرَّ منها آخرون.

الكل يراسل الكل، ويتكلم مع نفسه في نفس الوقت.

تتزاحم الأفكار، وتزدحمالتساؤلاتُ في عجقةٍ من الانبهاتِ المسيطر على العيون التي تتحرك بسرعة،والكلمات المترددة بين المنطوق والمسموع.

حالة رعبٍ كاملة وإن لم تخرج إلى الإعلانِ، لكن ملامحها فاضحة فلم يعد ينفع معها الكتمان.

وبسرعة البرق أعادت الذاكرة كل مآسي الحرب العبثيّة الطويلة مع المحيط الطرابلسي، وبدأت التحليلات والتفسيرات التي يعجز عنها كلُّ محللي النشرات الإخبارية العالمية. الكل للأسفَ بدا متوتراً، ويزداد قلقاً كلما نظر إلى هاتفه وراقب ما تأتيه من أخبار لا تهدأ.وفجأةً، ينتفض أمامك وَبِثِقَةٍ: جبابرةُ التحليلِ السياسيِّ التي لا تُنَاقش. هذه لعبة أمنية بامتيازٍ بين فرع أمني ضد آخرٍ، يقولُ أحدهم بقوةٍ لا تقبلُ الاحتمالاتِ.ليسَ بالضرورةٍ يا عزيزي، يجاوبه آخرٌ، القصةُ أكبرُ بكثيرٍ، هي لعبة محاور إقليميّة بين السعوديّة و​إيران​، وقد آن الأوان كما يبدو لإعادة أحداث طرابلس إلى سالفِ عهدها الدموي المشؤوم.

لا، ليس الأمرُ كذلك، أخبرني أحد صبيةِ الأجهزة أن لديه معلوماتٌ قديمة أنَّ هناكَ شيئاً خطيراً سيفاجئنا جميعاً، وأن لا شيء انتهى على الإطلاقِ، فبلحظةٍ واحدةٍ فقط ستشتعلالحربالمدمّرة بين ​جبل محسن​ ومحيطه لن نر مثلها على الإطلاقِ. وسنشهد بلمح البصر عودة مظفرةً ميمونة لهارب من هنا، ومطلوبٍ من هناكَ، ويعود لقادة المحاور زعامتهم المنقرضة. والأيام بيننا.

يتدخل من لم ينطق بكلمة في حياته مفيدةً، فقد استفزه الحوار المشحون ليدلي برأيه العميق الذي اختزنه في داخله سنين طوالٍ: يا إخوان، لا تذهبوا بظنكم إلى مكانٍ بعيد، نحن بأمانٍ واطمئنان، فالجيش منتشر حولنا في كل مكان.

يرد عليه آخر: ما هذا الكلام، البارحة فقط مرّ من أمام حاجزهم ارهابيّان من المنكوبين وفجروا مقهى جبل محسن، أين كان الجيش؟. الجيشُ مغلوب على أمره، علينا التنبه والحذر وأخذ الحيطة. انتبهوا يا إخوان، تذكروا أنني أنذرتكم، القصة كبيرة جداً جداً أكثر مما تتصورون. ويختم بأن حلفاءنا في ​8 آذار​ لن ينسونا، فتقوم الدنيا عليه ولم تقعد. هؤلاءِ ليسوا حلفاءَ، هؤلاءِ سماسرة حروب، استعملونا كوقود في معاركِهم العنجهية. استغلوا خلافاتنا مع الجوارِ للمقايضة علينا، والمفاوضة على ظهرنا.نحن ندفع دماءنا رخيصة، وهم يقبضون بالسياسة ثمنا غالياً. ويستمر الحديث وتعلو أصوات الحوار كأنها ساحة حربٍ إعلامية، فالكل هنا يُحبُّ أن يلعب دور النصوحِ الخبيرِ، والعالم النحرير (الفاطنُ الحاذقُ)، بخبايا الأمور...

وأمضي أنا بين مجلسٍ وآخر، وأنظر إلى المارّة وأراقبُ بصمت وذهولٍ زوبعةَ الأخبار والوشايات والتحليلاتِ المخيفةِ.وأسيرُ بذهولٍ صوبَ بيتي في المنطقة الفاصلة بين جبل محسن والمنكوبين، وأسلك الطريق نفسه الذي سلكه إرهابيّا التفجيرين، فقد مرَّا من تحت بيتي وسلَّما على أفراد حاجزِ الجيشِ، ونجحا في تمزيق قلوبنا أسىً ولوعةً، فتأتيني رسالةٌ على الوتساب: "المجموعة المسلّحة تحتجز رهائن في طرابلس.وان عدد المجموعة يقدّر بين 9 وَ11 شخصا وجميعهم مسلحون. وأن قائد المجموعة (ع م) كان محكوماً سابقاً بقضايا إرهاب وقد تم إخلاء سبيله بعد قضاءمدة حكمه. أدخلُ من بعدها إلى هاتفي أتصفحُ الفيسبوك والتويتر، فأجد تغريدة مرعبة لأحد النواب الأقوياء ينشر صورةً لمسلح تجمعه مع وزير عدلٍ سابقٍ: "هذا هو المجرم برفقة... بعد أن أخرجه من السجن. بدون تعليق".

فَيُجنُّ جنوني. هلعتُ إلى بيتي بسرعة، وكادَ قلبي يطير من مكانه، نظرتُ إلى أطفالي الثلاثةِ نظرةَ مودِّعٍ قلقٍ، فتحتُ نافذتي المُطلَّةَ على الطريقِ المشؤوم أراقبُ.هذا الطريق الذيسلكه ​الإرهاب​يّان خالٍ من السيارات والناس. وأنا لا أتخيلُ سوى أن بعض أفراد المجموعة الخاطفة قد تسلك هذا الطريقَ لتحتجزَنا.والسؤال الذي لازمني ولم أجد له جواباً: ماذا يمكنني أن أفعل إن دخلوا وحاولوا احتجازنا؟. فأنا لا أملك في بيتي إلاَّ سكينا ولا أجيد استعمالها إلإ في قطع بصلة أو حبة بطاطا رُبما.

ماذا أفعل؟ يا إلهي ساعدني. قبضتُ على هاتفي جيداً، تاكدتُ من شحنه، أحكمتُ إغلاقَمدخلِ البيتِ، وسهرتُ ليلتي أراقبُ مدة ساعتين تقربياً حتى انقضتْ بالخبرِ الفَرَجِ: انتهتِ المعركة أخيراً.

الإرهابي عبد الرحمن مبسوط، الذي تحولت به ليلة عيد جبل محسن إلى كابوسٍ مروعٍ، ولا يقلُّ في إرهابه الدموي عن الإرهاب النفسي الذي تسبّبه الإشاعات والأخبار المضخمة والملفقة. والتي ساهم بها ساسة وإعلاميون على مواقع تواصلهم.والضحيّة التي لا يلتفت إليها، هي تلك ​القوى الأمنية​ والجيش الذي لا تهدأ آلياته.

ولنأت في النهاية لنقرأ المشهد الدموي ببضعةِ سطورٍ باردةٍ:

كشفتْ عملية الذئب المنفرد أن الثعالبَ في طرابلس ما زالتَ مَوْجُودةً، فتاريخ تجنيدها في المدينةقديم لم يهدأ بعد، هي تنامُ وتستفيقُ غبَّ الطلب، ولكنها لا تموت.وكل الأمل أن تكون 23 جولة اقتتال بين جبل محسن و​باب التبانة​ كافيةً عند بعضهم لتشفي غليلهم الدموي من بعضهم.

وفي الختام، استحضرني بيت المتنبي عن مصرَ، فأسقطْتُهُ على طرابلسَ التي قصرَّتْ كل مِصرٍ عنها على حدّ قوله:نَامَتْ نواطيرُ مصر عن ثعالبها فقد بَشِمْنَ وما تفنى العناقيدُ. وإذا كانتْ نواطير مصر قد نامتْ؛ لأن ثعالبها قد شبعتْ حدّ التخمة، فالثعالبُ السياسية في طرابلس تحوَّلت إلى مصاصي دماءٍ لا تشبع، ويبقى الرهانُ كلُّ الرهانِ على من وصفهم المتنبي في سينيَّته:"أكارِمٌ حَسَدَ الأرْضَ السّمَاءُ بهِمْ".

والسلامُ على طيب الكلام.