تتسارع التطورات في الإقليم بصورة دراماتيكية، على وقع حروبٍ باردةٍ بالجملة بين ​الولايات المتحدة​ وإيران وحلفائهما، يُخشى أن تتحوّل في أيّ لحظة إلى ساخنةٍ، وفي ضوء صفقة قرنٍ بدأت تتكشّف ملامحها في إطار مخطّطٍ مرسومٍ للمنطقة بكاملها، بعنوان "السلام" الفضفاض.

وبين هذا وذاك، يقف لبنان الرسميّ والشعبيّ موقف "المتفرّج"، غير الراغب بأن يكون له دور مباشر في أيّ من الصراعات، وينصرف لمواصلة الاهتمام باستحقاقاته الداخلية والآنيّة، من الموازنة التي تخضع للتشريح في مجلس النواب، على وقع الإضرابات والاعتصامات التي تثقل كاهله، إلى التعيينات التي تنتظر أن تدقّ ساعتها، مروراً بالإصلاحات المجمّدة حتى إشعار آخر.

باختصار، هي سياسة "النأي بالنفس" يتمسّك بها لبنان، ليس بالضرورة لاقتناعه بأهميتها في مواجهة "حروب" الإقليم، بقدر خشيته من تداعياتها المباشرة عليه، سياسة يقول كثيرون إنّ زمنها ولّى، وإنّ هذه "الحروب" ستنهي مفعولها، باعتبار أنّ لبنان، شاء أم أبى، سيكون مضطراً إلى النزول إلى مستنقعاتها، عاجلاً أم آجلاً...

النأي لا يجدي...

يمكن القول إنّ "الصمت" هو الذي يطبع السياسة اللبنانية الرسمية هذه الأيام، في مواجهة "العواصف" التي تجتاح المنطقة من كلّ حدبٍ وصوب. لم يصدر عن المرجعيّات الرسميّة موقفٌ واضحٌ إزاء قرع طبول الحرب بين الولايات المتحدة وإيران، لكنّه تنفّس الصعداء بعد تراجع أسهمها لصالح الحوار والمفاوضات، ولو كان ذلك على وقع العقوبات، باعتبار أنّ الخشية من انزلاق لبنان إلى أيّ مواجهة، مُكرَهاً، تتفوّق على كلّ ما عداها.

وتكاد السياسة نفسها، التي تسير بالتوازي مع مفهوم "النأي بالنفس"، تنعكس بشكلٍ أو بآخر، على موضوع "صفقة القرن"، التي بدأ "عرّابوها" الكشف عنها، ولو من باب الشقّ الاقتصاديّ الممهّد بطبيعة الحال لجوهرها السياسيّ الذي لم يعد خافياً على أحد. فعلى رغم مقاطعة لبنان رسمياً "مؤتمر المنامة" الذي أقيم لهذا الغرض، أسوةً بالجانب الفلسطيني، وهو المعنيّ الأول بكلّ ما يجري، فإنّ المواقف الرسمية غابت إلى حدّ بعيد، باستثناء البيان الصادر عن رئيس مجلس النواب ​نبيه بري​، الذي غمز أصلاً من هذا الباب بتعبيره عن "خوفه من أن يفسّر البعض الصمت الرسمي اللبناني قبولاً بالعرض المسموم".

وإذا كان ثمّة من يفسّر هذا الموقف، بالخشية اللبنانية الدائمة من "إغضاب" أيّ من الأصدقاء، ولا سيما الولايات المتحدة، التي تلعب اليوم دور "الوسيط" في ملف ترسيم الحدود، ودول الخليج، وفي مقدّمها ​المملكة العربية السعودية​، خصوصاً أنّ لبنان دفع ثمناً غالياً نتيجة تعكير صفو العلاقات معها، ولا يريد تكرار السيناريو السابق معها، فإنّ الأكيد أنّ "النأي بالنفس" لن يجدي في هذا الملف، باعتبار أنّ اسم لبنان واردٌ أصلاً في "الصفقة"، كونه يستضيف عدداً غير بسيط من ​اللاجئين الفلسطينيين​ على أرضه.

ولعلّ أكثر التداعيات التي تُقلِق المسؤولين اللبنانيين تكمن في شبح "التوطين" الذي بدا لكثيرين وكأنّه وللمرّة الأولى بدأ يتخطّى إطار "الشعارات" التي وظّفها الكثيرون على مدى سنوات لخدمة "أجندتهم السياسية"، ليرسم ملامح "خريطة طريق" جدية وفعلية، يقول البعض إنّها ستُنفَّذ في نهاية المطاف، سواء وافق عليها لبنان أم لا، ما يتطلب موقفاً جدياً، وحازماً، ومسؤولاً، يتخطّى "المزايدات" لمواجهة أيّ نسفٍ محتمل لحقّ العودة، الذي يصرّ عليه اللبنانيون والفلسطينيون على حدّ سواء.

ماذا عن "​حزب الله​"؟!

لكن، أبعد من تشريح الموقف الرسمي اللبناني، الراغب في البقاء على "الحياد" من أيّ مواجهة محتملة في هذا الملف أو ذاك، ثمّة من يسأل عن تموضع "حزب الله" من كلّ ما يحصل، خصوصاً أنّ كثيرين يعتقدون أنّ بيده "مفتاح" توريط لبنان أم تحييده، وسط تساؤلاتٍ مشروعة عمّا إذا كان موقفه سيبقى مقتصراً على الدعاية الإعلامية، كما هو حاصل حالياً، أم ستكون له ترجمة على الأرض مستقبلاً، تماماً كما حصل في بدايات الأزمة السورية.

وفي هذا السياق، لا يشكّ أحد بأنّ الملفّيْن موضوع النقاش يشكّلان "أولوية قصوى" بالنسبة إلى "حزب الله" في هذه المرحلة، باعتباره أولاً حليفاً وشريكاً لإيران، بل أحد أذرعها العسكرية في المنطقة كما يصفه كثيرون، فضلاً عن كونه مشمولاً بشكل أو بآخر بالحرب الواقعة، من خلال العقوبات المفروضة عليه، علماً أنّ أمينه العام ​السيد حسن نصر الله​ سبق أن أعلن صراحةً أنّ أيّ حرب على إيران ستشمل المنطقة كلّها، وثانياً لكونه يعتبر ​القضية الفلسطينية​ في أساس النضال الذي يخوضه، باعتبارها جوهر الصراع مع ​إسرائيل​، وبالتالي فهو معنيّ بأيّ "صفقة" تهدف إلى نسف هذه القضيّة، بغضّ النظر عن أيّ اعتبار آخر.

من هنا، يظهر بوضوح الجهد الإعلاميّ الذي يبذله الحزب في هذه المرحلة لمواجهة كلّ ما يحصل، وخصوصاً من خلال تنظيم العديد من اللقاءات السياسية والإعلامية والثقافية، تحت عنوان رفض ثقافة الاستسلام مهما كان الثمن، وهو جهدٌ يقول العارفون إنّه سيتضاعف في المرحلة المقبلة، توازياً مع تكشّف المزيد من خيوط ما يُرسَم للمنطقة، في ظلّ رهانٍ على إجماعٍ لبناني واسع على الوقوف في خطّه، بعيداً عن الاختلافات السياسية، لأنّ أحداً، حتى من حلفاء الولايات المتحدة، لن يجرؤ على المساندة الصريحة لخطةٍ تنصّ في أحد فصولها على إنهاء حقّ العودة، بما يتعارض أصلاً مع الثوابت اللبنانية المعروفة.

ولأنّ موضوع "صفقة القرن" يسير أيضاً بالتوازي مع التوتر الأميركي-الإيراني المتفاقم، ثمّة من يسأل عن موقف "الحزب" في حال انفلات الأمور، وتحوّلها إلى مواجهة ميدانية عسكرية. هنا، يقول المطّلعون إنّ مثل هذا الخيار لا يزال مُستبعَداً في قاموس "الحزب"، بدليل التطورات التي وقعت في الأيام الماضية، وما حُكي عن عدول الرئيس الأميركي ​دونالد ترامب​ عن خطّةٍ لضرب أهداف إيرانية في اللحظة الأخيرة، ما يعني أنّ المواجهة ستبقى محدودة حتى إشعارٍ آخر. لكنّ الحزب، الذي يوجّه رسائل "الطمأنة" في هذا السياق إلى سائليه، وهو الحريص على علاقته بكلّ من رئيس الجمهورية ​ميشال عون​ ورئيس الحكومة ​سعد الحريري​، يؤكد في الوقت نفسه أنّ الظروف هي التي ستحكم مسار الأمور في النهاية، وأنّه يبقى جاهزاً للحرب إذا ما فُرضت عليه، وهو ما يكرّره قياديّوه ومسؤولوه أصلاً بين الفينة والأخرى.

الندم لن ينفع؟!

لا يحتاج المرء إلى الكثير من التحليل ليدرك أنّ لبنان هو في قلب الصراع، وأنّ سياسة "النأي بالنفس" التي حقّقت مبتغاها في مقاربة الأزمة السورية، لن تجدي هذه المرّة. يكفي للدلالة على ذلك أنّ اسم لبنان واردٌ في "صفقة القرن"، ما يعني أنّ غضّ النظر عنها، ولو من باب "الحرج"، ليس من الخيارات المطروحة.

وإذا كان كثيرون يتحدّثون عن "إجماع لبناني" أصلاً على رفض هذه الصفقة، وعلى رفض التوطين، أياً كانت الإغراءات، وأنّ مثل هذا الموقف ليس بحاجة إلى "فحص دم" من هذا الفريق أو ذاك، فإنّ الأكيد أنّ المطلوب ترجمة هذا الإجماع سريعاً، وبصوتٍ مدوٍّ، لا خجول، لأنّ الندم لن ينفع متى وقعت الواقعة...