«عندما تستقيل المعرفة تأتي الأسطورة لملء الشواغر»

عندما وضع أفلاطون تصوّره «للمدينة الفاضلة» كانت مدينة إسبارطة مثله الأعلى والأقرب لتصوّره للحكم الرشيد والمستقر، لأنها تمكنت على مدى عدة قرون من الصمود من خلال تماسك مجتمعها. وأهمية إسبارطة في التاريخ الغربي تتعدى الوقائع التاريخية لتدخل في رمزيات تم تجسيدها في الأدبيات الغربية لتتمحور حول «عشق الحرية»، حين تحوّل ملكها «ليونيدس» الشرس والمتوحش رمزاً لرفض العبودية. بالتالي، أصبحت المدينة عنواناً للتضحية والاستبسال في وجه عدو متفوّق بعديده، لكنّ أفراده مُستعبدون لا يدافعون عن أي قضية، مما يجعلهم ضعفاء في مواجهة من يحمل قضية.

يعتبر الغرب أنّ الحرب «الميدية» التي دارت بين 490 و479 ق. م. بين الفرس الأخمينيين واتحاد المدن اليونانية، كانت المحطة الأهم في الفصل بين الشرق والغرب. وقد حفرت هذه الأحداث بوقائعها وأساطيرها عميقاً في الذاكرة الجماعية للغرب، فتحولت إلى رمزية وجودية لا تزال تقوم بدورها حتى اليوم في مخيلة الناس.

لا يمكن اليوم تحديد متى بدأ تشبيه المجتمع اليهودي بمجتمع إسبارطة، فهناك العديد من الأدبيات عن هذا الموضوع المنسوبة إلى الفترة «البطليمية»، أي في القرن الثالث ق.م.، في المملكة التي تركها «اسكندر ذو القرنين» لأحد جنرالاته (بطليمس) في مصر بعد وفاته بشكل مفاجئ.

لا يمكن التأكيد على مصادر ربط اسبارطة بإسرائيل، وقد تكون بعد الوثائق قد تم إدخالها بشكل مقصود للإيحاء بهذا الرابط، لكنّ المؤكد هو أنّ الفكر اليهودي الذي اختلط بالفكر اليوناني، تأثّر بشكل كبير بطروحات أفلاطون، ومن ضمنها ما هو ما ورائي، ولكن الأهم هو صورة المدينة الفاضلة المتمثّلة بإسبارطة.

منذ بضع سنوات سمعت «تسيبي ليفني»، رئيسة وزراء إسرائيل السابقة، تتحدث في الكنيست عن عدم قدرة إسرائيل على الاستمرار كإسبارطة، أي مدينة مهددة بشكل دائم من محيطها، وغير قادرة على تحقيق تسويات تؤدي الى سلام مُستدام.

لقد أثار ذلك فضولي، فذهبت لبحث مطوّل حول مصدر هذا التشبيه، فلم أجد شيئاً يذكر باللغة العربية. لكن عند إجرائي البحث باللغة الانكليزية ظهرت أمامي العشرات من البحوث والتحاليل لصحفيين غربيين مقرونة بتحقيقات ميدانية، لتأكيد أنّ سياسة وجود دولة إسرائيل اليوم مبنية على التماهي بمدينة إسبارطه. كما أنّ هذه التحليلات استدرجت ردات فعل من أكاديميين إسرائيليين لرفض هذه الفرضية.

لمَن يهمه الأمر إنّ فكرة المدينة الفاضلة الأفلاطونية ليس فيها من الديموقراطية أي أثر، بل على العكس إن أفلاطون ورث كرهه للديموقراطية عن معلّمه سقراط الذي ذهب هو ضحية لرأي «الغوغاء»، فالحكم لأفلاطون محصور بالفلاسفة الذين يُنتقون بشكل دقيق منذ الطفولة، بعد تدريبات وتجارب ليبقى بعضهم في النهاية لتولّي شؤون الحكم.

أمّا باقي الشعب والعبيد فمن الخطأ إدخالهم في موقع القرار، وذلك لقصورهم عن حسن التقدير في خدمة المصلحة العامة لأنّ مصالحهم وأهواءهم وجهلهم تجعلهم بعيدين عن الحكمة الخالصة الضرورية لإدارة شؤون الناس.

وكانت إسبارطة مدينة - دولة فيها 3 طبقات، الأولى هي طبقة الحكام والعسكر، وهم يشكلون طبقة المواطنين الفعلية التي منها فقط يخرج صنّاع القرار، وهم من يتدربون رجالاً ونساءً على القتال وشظف العيش وتحمّل الصعاب، من أجل السيطرة على المدينة أولاً، ولردع الأعداء الخارجيين ثانياً.

أمّا الطبقة الثانية فهي تشمل التجار والحرفيين وصغار الكسبة، وهم مواطنون يتمتعون بلائحة من الحقوق، وعليهم جملة من الواجبات، لكنهم لا يقاتلون ولا يحكمون.

أما الطبقة الدنيا فهي طبقة الأقنان (Helot)، وهم لا يعدّون من المواطنين، ويسكنون خارج أسوار المدينة الحصينة، لكنهم بالترهيب والقهر يخدمون سكان المدينة من خلال الزراعة وشق الطرقات وبناء القصور...

عندما حاول البروفسور «غال أمير» من جامعة حيفا نفي التشبيه قائلاً انّ إسرائيل هي ديموقراطية على عكس إسبارطة الديكتاتورية، وان لا مواطنين من الدرجة الثانية ولا عبيد عندها. ردّ بحث غربي آخر بأنّ التشابه واضح ليس فقط نظرياً، بل هو ما حاول الصهاينة البناء عليه في خيال الغرب على أساس أنّ إسرائيل تقف سداً في وجه غزو الشرق للغرب (إسلام - مسيحية، تخلف - تقدم، همجية - حضارة، ديموقراطية - ديكتاتورية، حرية - إستعباد...) كما فعلت إسبارطة في وجه «أحشويرش الأول» شاه الفرس في مضيق «ترموبيلاي»، عندما تمكنت مجموعة صغيرة نسبياً من الاسبارطيين من إعاقة التقدم البري للجيش الفارسي وضرب معنوياته، في حين أنّ الحسم كان في البحر في معركة مضيق «سلاميس» عندما دحر الأسطول اليوناني مئات السفن من جنسيات متعددة تحت القيادة الفارسية. وهكذا هي إسرائيل الصغيرة في عددها الواقفة في وجه الشرق بمختلف ألوانه.

أما من ناحية التركيبة الجغرافية الديموغرافية، فإنّ إسرائيل اليوم تشبه بالفعل قلعة مسوّرة في مختلف الإتجاهات، وفيها 3 طبقات من السكان:

فئة المواطنين وهي تشمل اليهود فقط دون غيرهم، وهي فئة مَن يشاركون في التدريب العسكري منذ الطفولة، ومنهم بشكل أساسي يخرج الحكام، ما عدا استثناءات قليلة، وهم أصحاب الحق بكامل المواطنة.

الفئة الثانية هي لشبه المواطنين، وتشمل العرب الإسرائيليين، وكما هو معروف فإنّ تأثيرهم على مواقع القرار يكاد لا يذكر.

أمّا طبقة الأقنان فهي تتمثّل بكل الفلسطينيين الآخرين الموجودين داخل الأراضي المحتلة، وهم كما هو معروف لا يملكون أية حقوق.

لكن أهم ما تمثّله إسبارطة للفكر اليهودي أنها محاطة دائماً بالأعداء، ممّا يستدعي البقاء على السلاح، والحاجة إلى التماسك الداخلي لوجود خطر خارجي دائم.

من هنا حاجة إسرائيل لأعداء.

السؤال الذي يطرح نفسه اليوم في ظل بروبغاندا صفقة القرن، هو من أين ستخترع إسرائيل الأعداء حتى تبقى هي إسبارطة الشرق الأوسط؟