ما إن أعلنت موسكو عن حريق أصاب غوّاصة روسيّة في المياه الإقليميّة الخاصّة بالإتحاد الروسي وقضى على ١٤ بحّاراً، حتى إنطلقت التحليلات بشأن الأسباب التي أدّت إلى هذا الحريق. هل نتج عن ضربة عسكريّة أميركيّة؟ عزّزت جغرافية الحادثة من قوّة السؤال المذكور، لأن الغوّاصة أصيبت على مسافة غير بعيدة من ساحل الباسيفيك. فهي ليست سفينة عادية، بل تدلّ رتب البحارة الذين قضوا فيها أنها مهمة جداً، وتنفّذ مهمات إستراتيجية، رغم أن الروس يؤكّدون انّها مخصّصة للأبحاث العلمية: كل البحّارة ضباط عسكريون، سبعة منهم برتبة عقيد بحري، ومن بينهم إثنان مقلّدان وسام بطل روسيا.

قد تكون الحادثة عادية، او ينطبق عليها وصف موسكو بأنها تعرّضت لحريق، لكن كلام الرئيس الروسي ​فلاديمير بوتين​ حول ضرورة التحقيق بما جرى، وتكليفه وزير الدفاع الروسي ​سيرغي شويغو​ بالإشراف شخصياً على متابعة القضية في مدينة سيفيرومورسك، حيث توجد الغواصة المنكوبة في قاعدة للبحريّة الروسيّة، إضافة الى توقيت الحادثة، سمح بطرح سيناريوهات حول إعتداء تعرّضت له.

العين على ​واشنطن​، لكن لا يتحمّل الرئيس الأميركي ​دونالد ترامب​ أيّ مسؤوليّة، لأن لا مصلحة له بتدهور العلاقة الأميركية-الروسية، لا بل هو ينظّر لفكرة الوفاق بين بلاده وروسيا الإتحاديّة من أجل تركيز الولايات المتحدة على مواجهة التمدّد الصيني في العالم. ومن هنا يأتي إتّهام البنتاغون الأميركي بالسعي لتخريب العلاقة بين سيد ​البيت الأبيض​ والرئيس الروسي. يأتي العبث بالعلاقات بين موسكو وواشنطن بعد القمّة اليابانيّة بين الرئيسين الأميركي والروسي. مما يعزّز الإفتراض أنّ القمة أنتجت قرارات سياسية مهمة بشأن التوازنات في العالم، بمعزل عن إستشارة ترامب للدولة الأميركيّة العميقة التي تعتبر تجاهلها يمسّ بالأمن القومي للولايات المتحدة.

هو ذاته الصراع بين الدولة العميقة وترامب، لم يتغير. لكنّه وصل الى مرحلة خطرة في كباش مفتوح وخطير. لن تكون ​إيران​، ولا ​سوريا​، ولا ​الخليج​، ولا أيّ ساحة اخرى بمعزل عن التنسيق الترامبي-البوتيني القائم، وهذا ما يستفزّ الدولة العميقة التي يبدو انها قرّرت ان تقلب الطاولة الأميركيّة على التنسيق المُشار إليه.

تنبّه ترامب لتلك التطورات الخطيرة، وإستدعى نائبه من الجوّ للعودة الى واشنطن وحضور جلسة طارئة ل​مجلس الأمن​ القومي، بينما كان بوتين يرأس جلسة مماثلة.

واذا كانت موسكو مارست سياسة الصمت وعدم اتّهام أيّ طرف بشكل علني، فلأنها لا تريد أن تساهم في محاصرة الإنفتاح الترامبي نحوها. وهي بالأساس لا تسعى الى خدمة محور "الدولة العميقة"، بل يهمها نجاح خطوات ترامب الإنفتاحية، تحضيراً لتسوية عالمية بين الروس والأميركيين تطال الدول العربيّة بما لديها من ثروات طبيعية.

لكن المعضلة الوحيدة التي تواجه التقارب بين موسكو وواشنطن هي بكّين، لأنّ الرئيس الأميركي يريد من الروس ان يبتعدوا عن الصين، في وقت يتعزّز التحالف الروسي-الصيني عالميّا، ويضمّ إيران أحيانا في ملفات اساسيّة.

بالمحصّلة، هل بدأ الصراع الأميركي-الأميركي يأخذ اشكالاً خطيرة؟ اذا ثبتت صحّة الهجوم على الغواصة الروسية وضربها في عمق البحر، فإنّ ترامب سيكون مضطراً لإتّخاذ قرار واضح بشأن علاقته مع موسكو: الإقدام ام التراجع؟ في حال أقدم، سيكون المسار في واشنطن صعباَ في حرب أميركيّة-أميركيّة، وإذا تراجع ترامب إنكسرت هيبته وقراراته أمام الدولة العميقة حتى نهاية ولايته.