قد لا يكون فرض الولايات المتحدة عقوباتٍ على "​حزب الله​" أمراً جديداً، باعتبار أنّ تاريخ المواجهة بين الجانبين شاهدٌ على الكثير من العقوبات التي فرضتها ​وزارة الخزانة الأميركية​ على قياديين رفيعي المستوى في الحزب، أو حتى على أشخاص داعمين للحزب، أو ممّن تربطهم به علاقات تجارية وعسكرية.

وإذا كان مفهوماً كذلك أن تتوسّع هذه العقوبات في هذه المرحلة في ضوء الحملة التي تقودها واشنطن ضدّ إيران على وقع قرع طبول الحرب بينهما، خصوصاً أنّها تعتبر "حزب الله" الذراع العسكري لطهران في المنطقة، فإنّ ما بدا مفاجئاً لكثيرين أن تشمل العقوبات نائبيْن عن الحزب، هما رئيس كتلة "الوفاء للمقاومة" ​محمد رعد​ وعضو الكتلة ​أمين شري​، في مفارقة تحدث للمرّة الأولى.

ولعلّ المُستغرب في بيان الإعلان الأميركي تجلى في دعوة ​الحكومة​ اللبنانية إلى مقاطعة المشمولين بالعقوبات، في خطوة فسّرها البعض بأنّها بمثابة إحراج للحكومة، التي قد لا يكون "النأي بالنفس" أحد خياراتها هذه المرّة، باعتبار أنّها مضطرة للتعامل مع نائبي الحزب، شأنهما شأن غيرهما من النواب، تطبيقاً للنظام السياسي المعمول به في لبنان...

بعد سياسي؟

عملياً، توحي المعطيات المتوافرة بأنّ العقوبات الأميركية الجديدة التي فرضت على "حزب الله" تحمل بعداً سياسياً أكثر من أي شيء آخر، خصوصاً أنّها المرة الأولى التي تدرج فيها الإدارة الأميركية شخصيات سياسية تابعة للحزب على قائمة عقوباتها، وإن كانت ترفض تاريخياً الفصل بين جناحين سياسي وعسكري في صفوف الحزب، على غرار بعض دول الاتحاد الأوروبي مثلاً.

ولعلّ توقيت صدور هذه العقوبات يعزّز فرضية "الأجندة السياسية" من خلفها، خصوصاً أنّها جاءت تزامناً مع المواجهة الأميركية-الإيرانية الآخذة في التصاعد في هذه المرحلة، والتي لم يعد خافياً على أحد أنّ الولايات المتحدة تستخدم فيها العقوبات باعتبارها سلاحاً فعّالاً في الحرب الباردة. وبالتالي فإنّه كان متوقعاً أنّ تتوسّع العقوبات على "حزب الله" تلقائياً، انسجاماً مع الحملة الحالية، خصوصاً أنّ واشنطن تعتبر أنّ "الحزب" يشكّل الذراع العسكريّ لإيران، وأحد أقوى أسلحتها في المنطقة، علماً أنّ الأخير لا يخفي أصلاً متانة علاقاته مع القيادة الإيرانية، بل إنّ كثيرين في الداخل والخارج يتهمونه بـ"التبعية" لها.

ولا يتوقف مغزى التوقيت عند هذه النقطة، بل يشمل أيضاً خطة السلام التي تسعى الإدارة الأميركية لتسويقها في المنطقة، والتي اصطلح على تسميتها بـ"صفقة القرن"، والتي أعلن لبنان صراحةً رفضه لها، بل تصدّيه لأيّ مخطّط لتوطين ​اللاجئين الفلسطينيين​ على أرضه، وفق ما ورد في التسريبات المتداولة عنها. وثمّة من ينطلق من ذلك ليفسّر العقوبات الأميركية الجديدة على "حزب الله"، بأنّها بمثابة "ردّ" على هذا الموقف اللبنانيّ، خصوصاً أنّ واشنطن تقرأ "بصمات" واضحة للأخير في موقف لبنان، نظراً لتوسّع نفوذه داخل الحكومة اللبنانية، بما لا ينسجم مع تطلّعاتها بصورة عامة.

وأبعد من السياسة، يستبعد المعنيّون أن يكون للعقوبات الجديدة على "حزب الله"، وإن شملت ما يُعرَف اصطلاحاً بجناحه السياسي، انعكاسات مختلفة عمّا سبقها من عقوبات شملت العديد من القياديين في الحزب، بمن فيهم أمينه العام ​السيد حسن نصر الله​ شخصياً كما نائبه ​الشيخ نعيم قاسم​، خصوصاً أنّه بات معروفاً أنّ الحزب يتّخذ "احتياطاته" في هذا الشأن، ولا حسابات مصرفيّة لقياديّيه في الخارج، وتحديداً في الولايات المتحدة، وإن طُرِحت تساؤلات حول إمكان أن تعقّد العقوبات، إذا ما شملت المصارف اللبنانية، عملية تحويل رواتب النائبين إلى حساباتهما.

كيف تتصرف الحكومة؟

عموماً، لا يُتوقّع أن يخرج موقف السيد نصر الله المرتقب في إطلالة تلفزيونية مبرمجة يوم الجمعة المقبل، عن ردود الحزب التقليدية، لجهة اعتبار العقوبات "وساماً على صدر الحزب"، لتتّجه الأنظار إلى موقف الحكومة اللبنانية من الأمر، والتي بدأ الحزب يطالبها بموقفٍ رسميّ، كما فعل عضو كتلة "الوفاء للمقاومة" النائب ​علي فياض​ تعليقاً على العقوبات، في خرقٍ لصمت الحزب، يُسجَّل للمرّة الأولى أيضاً إزاء تطوّرٍ من هذا النوع.

وفي هذا السياق، يميل الاعتقاد السائد إلى استبعاد أيّ موقفٍ جامعٍ يمكن أن يصدر عن الحكومة، في مواجهة الإدارة الأميركية، وإن كان "حزب الله" يشكّل ركناً أساسياً من أركانها، وذلك انطلاقاً من القناعة بعدم جدوى الخوض في إشكاليّاتٍ مع واشنطن قد تضرّ أكثر بكثير ممّا تنفع، خصوصاً في ضوء ما يُخطَّط للمنطقة، ولبنان في صلبها، فضلاً عن حرص معظم المكوّنات الحكوميّة على أفضل العلاقات مع الإدارة الأميركية، بمُعزلٍ عن ملف "حزب الله"، باعتبار أنّ المصلحة اللبنانية العُليا هي التي تقتضي ذلك.

لكن، إذا كان من غير المتوقّع أن تتعامل الحكومة مع العقوبات الجديدة بشكلٍ مختلف عمّا سبقها، ثمّة من يعتبر أنّ "النأي بالنفس" ليس خياراً مطروحاً أمامها، نظراً لأنّ البيان الصادر عن وزارة الخزانة الأميركية كان واضحاً لجهة مطالبتها بعدم التعامل مع المشمولين بالعقوبات، وهو ما لن يكون متيسّراً طالما أنّ بين هؤلاء نائبيْن منتخبيْن من الشعب، لا يمكن عزلهما، أو تجاهلهما، احتراماً للنظام الديمقراطي اللبناني، علماً أنّ طرح استقالتهما الذي تقدّم به البعض هو من سابع المستحيلات، بل إنّ قيادة "حزب الله" لن تتردّد في تعزيز دورهما داخل البرلمان رداً على القرار الأميركي.

ويبقى الرهان المعتاد على تفهم "الخصوصية اللبنانية"، التي لا تتيح مقاطعة مكوّنٍ بحجم الحزب، لتجاوز "المأزق" الناتج عن "الإحراج" المستجدّ إن جاز التعبير، خصوصاً أنّ البيان الأميركي تضمّن في الوقت نفسه، فصلاً بين العقوبات والعلاقة مع لبنان، من خلال الإشارة إلى أنّ "الولايات المتحدة ستستمر في دعم جهود الحكومة اللبنانية لحماية مؤسساتها من الاستغلال من قبل إيران وعملائها وتأمين مستقبل أكثر سلاما ورخاء للبنان"، وفي ذلك رسالةٌ فُسّرت إيجابياً في دوائر القرار اللبنانيّ.

السياسة أولاً!

منذ أن أدرجت الإدارة الأميركية "حزب الله" على قائمة "المنظمات الإرهابية" في تشرين الأول 1997، تتوالى بين الفينة والأخرى العقوبات التي تفرضها على مسؤولين فيه، تتّهمهم بـ "تهديد عملية السلام في الشرق الأوسط".

وإذا كانت العقوبات سبق أن شملت المسؤول الأرفع في الحزب، أي السيد نصر الله، إلا أنّها لم تشمل قبل اليوم، أياً من نواب الحزب، المُنتخَبين من الشعب اللبناني، ما جعل الخطوة تتّخذ أبعاداً مختلفة اليوم، وتُطرَح حولها علامات استفهام.

وإذا كان من البديهي عدم توقّع "مقاطعة" الحكومة لنائبيْن يفترض أن تكون "مساءلة" أمامهما عملاً بالنظام الديمقراطي وآدابه، يبقى التوظيف السياسي للعقوبات الجديدة هو الأهمّ، والذي يجب أن تدور حوله النقاشات، بعيداً عن كلّ القشور...