فيما لا تزال الحركة السياسيّة في البلاد "مجمّدة" بسبب تداعيات حادثة ​قبرشمون​، واصطدام كلّ المَخارِج المطروحة بـ"فيتو" هذا الفريق أو ذاك، يبدو أنّ الأزمة التي خلّفتها المادة 80 من ​الموازنة​ وجدت طريقها إلى الحلّ، ولو مع بعض "الخدوش".

ويقوم المَخرَج المطروح على أن تمرّ الموازنة كما جاءت من ​مجلس النواب​، وهو ما حصل مع توقيع ​رئيس الجمهورية​ ​ميشال عون​ عليها، على رغم ما يعتبرها بعض النواب "خديعة" تعرّضوا لها، على أن تُدرَس الخطوات الممكنة للمواجهة لاحقاً، وفي مقدّمها تقديم اقتراح قانون لإلغاء المادة المثيرة للجدل.

وبموجب هذا المَخرَج، وجه عون رسالة إلى مجلس النواب طلب فيها تفسير المادة 95 من ​الدستور​، ربطاً بالإشكاليّة التي فجّرتها المادة 80 من الموازنة، والتي أعادت إحياء سجالاتٍ ظنّ كثيرون أنّها باتت من الماضي. فما هو هدف رئيس الجمهورية من اللجوء إلى مثل هذا الخيار؟ وأيّ مفاعيل محتملة لرسالة الرئيس إلى مجلس النواب؟ هل تنهي السجالات "الدونكيشوتية" القائمة حالياً، أم تأتي بنتيجة عكسيّة، فتعمّقها أكثر؟!.

الرئيس مُحرَج؟!

ليست المرّة الأولى التي يستخدم فيها رئيس الجمهورية صلاحيّة توجيه رسالة إلى مجلس النواب، وهي حقّ بديهيّ منحته إيّاه المادة 53 من الدستور، التي نصّت صراحةً في فقرتها العاشرة على أنّ "رئيس الجمهورية يوجه، عندما تقتضي الضرورة، رسائل إلى مجلس النواب"، من دون أن تحدّد طبيعة المواضيع التي يتناولها الأخير في رسائله هذه.

سبق لعون أن استخدم هذه الصلاحيّة حين طالب بإعادة النظر بمضمون المادة 49 من ​قانون الموازنة​ السابق المتعلّقة بمنح إقامة لكلّ عربي أو أجنبي يشتري وحدة سكنية في ​لبنان​، كما تمّ التلويح بها مراراً خلال مرحلة مفاوضات تأليف ​الحكومة​، من باب حثّ رئيس الحكومة المكلّف على إنجاز مهمّته، ربطاً بمطالعات دستورية وقانونية وُضِعت على الطاولة.

إلا أنّ الرسالة التي وجهها رئيس الجمهورية إلى مجلس النواب هذه المرة لها أبعادٌ أخرى، في ​السياسة​ أولاً، وهو ما يبرّر وضعها من جانب بعض المتابعين في خانة "تفادي الإحراج" الذي تسبّبت به الموازنة، بعدما سُمّي في الأوساط القريبة من عون وفريقه السياسي، "تهريباً" للمادة 80، والتي ظنّ النواب أنّها "شُطِبت"، فإذا بها واردة في متن الموازنة، على رغم عدم طرحها على التصويت، وهو ما أكد وزير الخارجية ​جبران باسيل​ رفضه، واستعداده للتصدّي له أياً كانت العواقب.

وتبدو هذه الفرضية الأقرب إلى الواقع والمنطق في حقيقة الأمر، فرئيس الجمهورية يرى أنّ لا مصلحة له بردّ الموازنة، وإن كان ذلك من حقّه، وهو ما دفعه إلى التوقيع، لأنّها جاءت متأخّرة أصلاً عن موعدها، ولأنّه لا يريد أن يحمّله أيّ طرف مسؤولية أيّ تعطيل، في ظلّ الواقع الاقتصادي الدراماتيكي الذي تعيشه البلاد، وترقّب الجميع لصدور هذه الموازنة، التي تُعلَّق عليها الكثير من الآمال لإطلاق الورشة الاقتصادية الموعودة، وبالتالي انتشال البلاد من المأزق الذي تئنّ تحته، إذا ما وصلت أموال مؤتمر "سيدر".

تفسير لا بدّ منه!

لكن، في مقابل إصرار رئيس الجمهورية على إقرار الموازنة، فهو يدرك أنّه لا يستطيع أن يمرّ على المادة 80 وما سبّبته من سجالات مرور الكرام، وكأنّها لم تكن، في وقتٍ يتحدّث نواب تكتل "​لبنان القوي​" وغيره عن "خديعة" تعرّضوا لها، وعن أنّ المادة مخالفة لمقتضيات الدستور، وقاعدة "​المناصفة​" البديهية والأساسيّة.

ولأنّ المدافعين عن المادة "اللغم"، كما يصفها البعض، ينطلقون من المادة 95 من الدستور، التي تتعلق بآليّة التوظيف في ​الدولة​، ويعتبرون أنّها تحصر مبدأ المناصفة بوظائف الفئة الأولى ولا تنطبق على ما دونها، فيما يعتبر المعترضون أنّ مضمون هذه المادة مشروط بإلغاء الطائفيّة، وهو ما لم يحصل، تصبح الدعوة إلى تفسير هذه المادة، والتي جاءت في صلب رسالة رئيس الجمهورية، في مكانها، بمُعزَلٍ عن الحسابات والاعتبارات الآنيّة التي قد يكون انطلق منها لتوجيه رسالته.

وإذا كان ما يدعو رئيس الجمهورية النواب إليه من خلال رسالته هذه، هو حسم الجدل القائم حول المادة الدستوريّة الإشكاليّة، خصوصاً أنّ "الاجتهادات" المتباينة حولها تطفو إلى السطح كلما فُتِح ملفّ التوظيف، من دون أيّ نتيجة، فإنّ الخشية تبقى من أن يتكرّر السيناريو المعهود، بل أن توسّع هذه "الاجتهادات" التباين في قراءتها حتى بين "الحلفاء"، بما يعمّق الشرخ الحاصل حالياً، علماً أنّ لا مفاعيل دستورية ملزمة لرسالة رئيس الجمهورية، طالما أنّ مجلس النواب يبقى سيّد نفسه دستورياً وقانونياً.

ومن هنا، ثمّة من يطرح علامات استفهام عن جدوى تحريك مثل هذا السجال "الطائفي" اليوم، خصوصاً أنّ المادة 80 لا تقدّم ولا تؤخّر شيئاً أصلاً في الموازنة، وأنّ إلغاءها لن يكون بالعملية المعقدة، سواء من خلال اقتراح قانون جديد، أو في متن الموازنة المقبلة، والتي يفترض أن تبدأ الحكومة بمناقشتها قريباً جداً، إذا ما خرجت من شللها القاتل. وربطاً بذلك، ثمّة من يحذّر من تداعيات ​النقاش​ الذي عاد ليُسمَع، بين فريق يدعو إلى "العدّ"، وآخر يتحدّث عن "غبن مسيحي"، و"حقوق طائفة" وغيرها من المُصطلحات، التي يفضّل ​اللبنانيون​ تجاوزها.

تسجيل موقف...

قد تكون رسالة رئيس الجمهورية إلى مجلس النواب حافزاً لحسم الجدل القديم الجديد حول المادة 95 من الدستور، بين فريقٍ يعتبر مفاعيلها سارية المفعول، وآخر يعتبرها عالقة بانتظار تأليف هيئة وطنيّة لإلغاء الطائفيّة السياسيّة، كان يفترض بمجلس النواب الأوّل بعد ​اتفاق الطائف​ أصلاً أن يشكّلها، تمهيداً للدخول في مرحلة انتقالية.

وقد لا تكون الرسالة أكثر من "تسجيل موقف"، بالتوازي مع توقيع الموازنة، إذا ما صحّت التوقّعات بأنّ "قناعات" كلّ فريق ستبقى على حالها، برسالةٍ ومن دونها، وهو المرجّح بطبيعة الحال، طالما أنّ الذهنية والعقلية الطائفية لا تزال متحكّمة بكلّ مجريات الأمور في البلد، لدرجة "إدانة" أيّ حديث عن تغليب الكفاءة على الطائفة، ربطاً بالهواجس التي لا يبدو أنّها ستزول في القريب العاجل...