تَولّد على ضفاف حادثة قبرشمون ومضاعفاتها اقتناع لدى البعض بأنّ رئيسَي «القوات اللبنانية» و»التقدمي الاشتراكي» سمير جعجع ووليد جنبلاط تمكّنا من إعادة رئيس الحكومة سعد الحريري الى جادة التحالف «المستقبلي» - «القواتي» - «الاشتراكي» الذي كان بَدا وكأنه تَفكّك، فيما تحدث بعض آخر عن أنّ جعجع وجنبلاط تمكّنا من إعادة الحريري خطوات الى الوراء عن جادة التسوية الرئاسية على مستوى علاقته مع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، ورئيس «التيار الوطني الحر» الوزير جبران باسيل.

أصل الحكاية قبل حادثة قبرشمون حيث كانت العلاقة بين الحريري وجنبلاط علاقة صدام، وكان نشر الغسيل بين الجانبين وصل الى درجة كبيرة، ليس على مستوى االخلاف حول بلدية شحيم، وإنما في السياسة حيث بدأ مناصرو الحريري يقولون لجنبلاط: «إنك انتهيت كبيضة قبّان»، الى حد انّ الأمين العام لتيار «المستقبل» احمد الحريري قال: «انفقشت البيضة».

وفي المقابل، كانت العلاقة بين الحريري وجعجع في مكان غير صحي، حتى انّ الاخير قال في مقابلته التلفزيونية الاخيرة انّ مساحات من عدم الانسجام ما تزال موجودة في العلاقة بينه وبين الحريري.

كذلك، فإنّ العلاقة بين جنبلاط وجعجع لم تكن جيدة بالمعنى السياسي العميق، وكان هذا الثنائي، ومعه ربما قوى سياسية أخرى أساسية في البلد، غير مرتاح الى وضع الحريري في التسوية الرئاسية، والى ما يعتبرونه «ذهابه بعيداً في التنازلات» أمام عون وباسيل.

كما انّ دعوة رؤساء الحكومة الثلاثة السابقين نجيب ميقاتي وفؤاد السنيورة وتمام سلام الى المملكة العربية السعودية أخيراً، كانت إحدى التعبيرات عن هذا التَململ من وضع الحريري على المستوى الاقليمي. وقيل انّ هؤلاء دعيوا الى المملكة من دون علم الحريري، الذي استقبلهم بعد اسبوعين من عودتهم.

خلاصة هذه المعطيات تدلّ الى انّ هناك واقعاً نَتج بعد حادثة قبرشمون، عنوانه الاساسي سحب الحريري من «الحضن العوني- الباسيلي»، بحسب تعبير البعض.

والمُلفت في هذا الصدد انّ الحريري إصطَفّ مُضطرّاً، بعد حادثة قبرشمون، الى جانب جنبلاط على عكس المناخ الذي كان بينهما قبل الحادثة، ما جعل هذا الاصطفاف يُحاكي شيئاً من ذاكرة 14 آذار وكذلك الخطاب السياسي المتوتر لمرحلة ما بعد حادثة قبرشمون، وكأنّ قبرشمون أدّت غَرضها بوضع البلد أمام مأزق سياسي كبير تداخلت فيه عناصر أخرى، مثل المادة 80 من قانون الموازنة والمادة 95 من الدستور وغيرها، الى درجة انّ الحديث بدأ هامساً عن قدرة الحكومة على البقاء، خصوصاً بعد المؤتمر الصحافي للحزب التقدمي الاشتراكي أمس، وكأنّ حادثة قبرشمون وتداعياتها يُراد لها أن تضع البلد في واقع انقسامي يُحاكي واقعاً إقليمياً متوتراً، ويُراد ربط لبنان عبر الأزمة المستجدة به لأنه واقع خاضع لعناصر المواجهة والصدام مع إيران على مستوى الاقليم.

على انّ المطّلعين على الموقفين «القواتي» و»الاشتراكي» يقولون انّ جنبلاط وجعجع وصلا الى اقتناع بأنّ «الخطة التي يسير العهد فيها تَهدف الى إضعاف الأول وعزل الثاني، بُغية دفع الحريري الى أحضانه أكثر، وانّ حادثة قبرشمون شكّلت الايذان بِبدء تنفيذ هذه الخطة، لأنّ باسيل لا يستطيع خوض معركته الرئاسية في ظل وضعية متقدمة لجنبلاط درزياً ولجعجع مسيحياً، وفي ظل تأثيرهما على الحريري. فإذا تمكّن من محاصرتهما وإضعاف أيّ تأثير لهما على الحريري، يستطيع تأمين أرضية متقدمة لانتخاباته الرئاسية.

وفي هذا التوقيت، ونتيجة حادثة قبرشمون وارتفاع هواجس جعجع وجنبلاط إزاء هذه الخطة، قرّرا شَنّ هجوم مضاد على 3 جبهات، هي: السعودية وعواصم القرار والحريري.

ـ السعودية، ذهب إليها الوزير وائل أبو فاعور بتأييد من جعجع، وانتزعَ موقفاً سعودياً مؤيّداً لجنبلاط، وأُبلِغَ الحريري ضرورة دعمه ومنع أي محاولة لتطويقه. وكذلك، تمّ توصيف ما يحصل بأنه محاولة انقلابية على «الثلاثي السيادي» «المستقبل» و«الاشتراكي» و«القوات».

ـ الأميركيون وعواصم القرار والسفراء العرب والاجانب في لبنان أُبلغوا الامر نفسه، وأنّ هناك محاولة لإسقاط التوازن الذي قامت عليه التسوية عام 2016 لمصلحة الخطة التي يعمل عليها عون، لتمكين باسيل من خلافته في الرئاسة. وهو، في حال نجح فيها، فإنّ ذلك سيعني عودة لبنان الى ما قبل الخروج السوري عام 2005. الأمر الذي دفع عواصم القرار الغربية الى إبلاغ الحريري ضرورة إيقاف هذه الخطة عند أبواب السراي الحكومي.

ـ الحريري، كانت المقاربة معه بدعوته أولاً الى مراجعة المراحل التي قطعتها التسوية الرئاسية منذ 2016، ليتبيّن له أنّ عون، وفي لحظة تَباين معه، سواء إبّان تأليف الحكومة او في اي مرحلة خلافية أخرى، يلجأ مباشرة الى إثارة مسائل خلافية من طبيعة تعديل في صلاحيات رئاسة الحكومة وكأن ليس هناك تسوية ولا مَن يحزنون، وكأنه يتكلم باللغة نفسها التي كانت سائدة إبّان 8 و14 آذار، ولم يتردد في طلب تحديد مهلة للرئيس المكلّف لتأليف الحكومة.

وقيل للحريري انه على رغم كل التساهل الذي يُبديه، كانت هناك ضغوط تمارَس عليه من باب صلاحيات رئيس الحكومة، بدليل ما حصل أخيراً من تسريب لاتصال بينه وبين عون على خلفيّة اتّكاء الاخير على البند 12 من المادة 53 من الدستور، والمتعلّقة بصلاحية رئيس الجمهورية في دعوة مجلس الوزراء الى الانعقاد، علماً أنّ هذا التسريب كان في غير محله، وانّ التذكير بهذه المادة الدستورية كان في غير محله أيضاً، لأنّ مجلس الوزراء لا يمكن ان ينعقد إلّا بموافقة رئيس الحكومة.

وبالتالي، فإنّ الهدف من هذا التسريب كان الضغط السياسي، فضلاً عن كلام باسيل عن «السنيّة السياسية التي نشأت على جثة المارونية السياسية»، والمطالبة بتفسير المادة 95 من الدستور، وإثارة ذوبعة في فنجان المادة 80 من الموازنة.

وأمام كل هذه الوقائع، تقول المصادر نفسها، انه اذا كان الحريري في موقع قوة ولديه تحالفاته الوطنية من المختارة الى معراب وما بينهما، قد تَمّ التعامل معه على هذه القاعدة، فكيف سيكون التعامل معه يا ترى إذا فقد أو خسر عناصر قوته هذه، من دون التقليل من ضغط الشارع السنّي عليه نتيجة شعوره بالابتزاز بفِعل ممارسات باسيل ومواقفه؟

وأمام هذه الصورة، سواء الخارجية او الداخلية، وَجدَ الحريري انّ استمراره في التسوية وفق القواعد السابقة باتَ يشكّل خطراً عليه وعلى موقعه وتموضعه، وقد دلّ الى ذلك اجتماع الساعات الخمس الأخير بينه وبين باسيل، حيث قيل يومها انّ ما قبل هذا الاجتماع هو غير ما بعده.

ولذلك، وأمام كل هذه المعطيات الداخلية والخارجية، تؤكد المصادر المطّلعة على الموقفين «القواتي» و«الاشتراكي» أن «لا عودة الى قواعد التسوية نفسها، خصوصاً بعد انكشاف المخطّط الآيل الى تطويق المختارة ومعراب، وانه لكل هذه الأسباب مجتمعة تَراجَع الحريري خطوات الى الوراء ليعود ويَصطفّ مجدداً الى جانب جعجع وجنبلاط، مُوحِياً بأنّ مصير أيّ منهما هو مصيرهم جميعاً، وقد أعاد نَبش واستحضار عبارته الشهيرة التي قالها في إحدى اجتماعات 14 آذار: «لن يفرّقني عنكم إلّا الموت»...

لقد نجح باسيل، تختم المصادر نفسها، في إزالة كل الحدود التي ارتسَمت بين مثلّث الحريري - جعجع - جنبلاط، وتوحّدوا بفِعل شعورهم انّ المواجهة التي يخوضونها هي من طبيعة مصيرية، تستدعي الالتحام وتمتين الأواصر لإسقاط الخطة التي تستهدفهم جميعاً.