ركّز البطريرك الماروني الكاردينال ​مار بشارة بطرس الراعي​، على "أنّنا نشكر الله على أنّنا تجاوزنا الاختبار الأخير الّذي عشناه بمرارةٍ في حادثة ​قبرشمون​ الّتي عطّلت عمل الحكومة لمدّة ثلاثةٍ وأربعين يومًا، ووتّرت الأجواء السّياسيّة، وباعدت بين القلوب، وأثّرت سلبًا على الوضع الإقتصاديّ والماليّ. فنرجو أن يكون الاختبار الأخير"، شاكرًا الله على "اجتماع "المصارحة والمصالحة" وعلى اللقاء الاقتصادي والمالي، اللّذين انعقدا أوّل من أمس في ​قصر بعبدا​. فكان الإفراج عن الحكومة المعطَّلة إذ عقدت جلستها أمس السبت". وشدّد على أنّ "السياسيين ال​لبنان​يين أثبتوا مرّةً أخرى أنّهم خبراء في خلق العقد والتّعطيل وفي حلّها وإعادة الحركة، ولكن بعد خسائر ماليّة واقتصاديّة باهظة تلحق بالدولة والشعب".

ولفت خلال عظته في قداس الأحد بالديمان، إلى "أنّنا نحيي اليوم الذّكرى السنويّة الرابعة لوفاة المثلّث الرحمة المطران جورج أبي صابر العزيز على قلبنا، الّذي كان لسنوات نائبًا بطريركيًّا عامًّا هنا في منطقة الجبة و​دير الأحمر​، بعد أن قضى في بداية أسقفيّته ثماني سنوات كأوّل رئيس أساقفة لأبرشيّة ​اللاذقية​، وقد بنى كرسيّها الأسقفي الجميل في ​طرطوس​، وقبل أن يُنقل مطرانًا لأبرشيّة كندا".

وأوضح البطريرك الراعي، أنّه "يتبيّن من إنجيل اليوم أنّ الناس نوعان: الأوّل، منفتحٌ يرى الخير في الآخرين، ويقرّ به. وينفتح على سرّ الله المتجلّي في ​يسوع المسيح​ وفي الإنسان الآخر. هذا النّوع من النّاس متمثّلٌ في ذاك الشّعب الطيّب، المؤمن، الحرّ والمتجرّد من ذاته، الّذي لمّا شاهد آية شفاء الأعمى- الأخرس، اندهش وآمن بيسوع ورأى فيه "ابن داود" الملكَ المنتظر". وشرح أنّ "النّوع الثّاني من الناس، متكبّرٌ، ممتلئٌ من ذاته، أنانيٌّ، لا يستطيع رؤية الخير عند الآخرين، ولا يقرّ بقيمتهم. هؤلاء لا يرون علامات حضور الله وتجلّياته في البشر، وقلوبهم مملوءةٌ كبرياءً وبغضًا، ويسعون إلى إلغاء الآخر المتميّز بأخلاقيّته وإمكانيّاته وقدراته"، مشيرًا إلى أنّ "هذا النّوع من الناس متمثّلٌ في الفرّيسيّين الّذين رأوا في آية شفاء الأعمى- الأخرس عمل رئيس الشّياطين. فكان يسوع بالنسبة لهم رئيس الشياطين، "بعل زبول".

وذكر أنّ "هؤلاء خافوا من أن يكون ​يسوع الملك​ الآتي بحسب مفهومهم السياسي. فخافوا على نفوذهم ومصالحهم الشخصيّة. في الواقع، هكذا ظنّوه فاشتكوه عند الرّومان محتلّي أرضهم بأنّه يجعل من نفسه ملكًا، أمّا ملكهم فهو القيصر. وعندما صلبوه كُتبت فوق رأسه علّةُ قتله: "يسوع النّاصريّ ملك ​اليهود​". وأكّد أنّ "هذه بكلّ أسف حالُ رجال السّياسة الّذين تنقصهم الروحانيّة والقيم الأخلاقيّة والإنسانيّة، والممتلئين من ذواتهم، ويضعون مصلحتهم الشخصيّة فوق كلّ اعتبار".

وبيّن أنّ "هنا تكمن منابع النّزاعات والخلافات والانقسامات والعداوات. لكنّنا لا نريد هنا أن ندين أحدًا، فهذا ليس من شأننا"، داعيًا إلى "الخروج من الذات" كما يردّد قداسة ​البابا فرنسيس​، والقيام بالخطوة الأولى نحو الآخر، والسّير معًا نحو فرح الحقيقة والخير العام". وركّز على أنّ "كلّ بيت ينقسم على نفسه لا يثبت". فكم نشاهد من عائلات، بكلّ أسف، تتفكّك ويعيش أعضاؤها في بؤسٍ، ويتبدّد تراثها، ويذوق أولادها، ولاسيّما القاصرون منهم، مرارة خلاف الوالدَين وكسر الشّراكة الزّوجيّة؟".

ونوّه الراعي إلى أنّ "كم من بلدات ومدن وقرى تتنافر وتعطّل المشاريع الإنمائيّة، وصولًا إلى إسقاط مجالسها البلديّة وهيئاتها الرسميّة، بسبب الخلافات العائليّة والحزبيّة والسّياسيّة. وقد نبّهنا الرّبّ يسوع إلى أنّ :"كلَّ مدينةٍ تنقسم على نفسها لا تثبت". وسأل: ​الدولة اللبنانية​ الّتي تعيش انشطارًا سياسيًّا مميتًا، ألا يتمّ فيها قول المسيح: "كلُّ مملكةٍ تنقسم على نفسها تخرب"؟".

كما شدّد على أنّ "الإنقسام قد بدأ في داخل الدولة عندما لم يتمّ الإلتزام بالدستور المعدّل سنة 1990 بوثيقة الوفاق الوطني، المعروفة بـ"​اتفاق الطائف​"، لا نصًّا ولا روحًا في مختلف الجوانب. بل ظهرَت ومورست مخالفات له متتالية وأعراف متناقضة، من دون أن تحصّن بقوانين تعدّله وفقًا للأصول"، مفيدًا بأنّ "هكذا بات كلّ فريق يفسّره كما يشاء ووفقًا لمصلحته. ولهذا السبب فُتح الباب على مصراعيه أمام الخلافات والنّزاعات وتعطيل عمل ​المؤسسات الدستورية​ عند كلّ استحقاق. وباتت ال​سياسة​ تتدخّل في الإدارة والقضاء والأجهزة الأمنيّة، فأفسدتها".

وأشار إلى أنّ "في مناسبة ​عيد الأضحى​ المبارك، نعرب عن تهانينا القلبيّة وأخلص تمنّياتنا لإخوتنا المسلمين في لبنان والعالم، راجين أن يكون العيد موسم خير وبركات من الله. وكما أنعم الله علينا بلقاءَي ​القصر الجمهوري​، السياسي والمالي، اللذين ولّدا الانفراج لدى اللبنانيّين جميعًا، نصلّي إليه كي تُعقَد لقاءات "مصارحة ومصالحة" مماثلة تعمّ جميع الأفرقاء السياسيّين، فيحقّقون فعليًّا الوحدة الوطنية، ويُثبتون للعالم أنّ لبنان هو حقًّا "مكان حوار الأديان والثقافات والحضارات".