لا يمكن ان يمر تاريخ 14 ايلول على المسيحيين في لبنان مرور الكرام، فهو تاريخ اغتيال ​رئيس الجمهورية​ المنتخب الراحل ​بشير الجميل​. قد تكون شخصية بشير عرضة لانقسام الرأي بين اللبنانيين بشكل عام، والمسيحيين منهم بشكل خاص، ولكن الايّام التي سبقت اغتياله اظهرت مدى تقرّبه من شخصيات لبنانية تنتمي الى مختلف الطوائف والمذاهب (شيعة، سنّة، دروز، موارنة، ارثوذكس...)، وهي الصورة التي لطالما كانت مفقودة في ظلّ ما كان يطلق عليه حينها -السيطرة المسيحيّة- على الاوضاع في لبنان، والتي وضع ​اتفاق الطائف​ حداً لها.

اليوم، وبعد 37 عاماً، يعود بشير الجميل من باب آخر، فهو وان كانت هناك علامات استفهام كثيرة حول الاساليب التي اعتمدها لتوحيد الصف المسيحي ومن بينها استعمال السلاح، الا انّه تمكن في نهاية المطاف من جمع عدد لا بأس به من الاقطاب اللبنانيّة من مختلف الطوائف، وقفوا الى جانبه وجال عليهم بعد انتخابه. اما المسيحون، فقد اعتبروا ان وصول بشير الى الرئاسة كان بداية مرحلة جديدة رأوا انها ستكون واعدة ومديدة. في العام 2019، بات بشير الجميل نقطة خلاف اساسيّة، ليس بين المسلمين والمسيحيين فقط، بل بين المسيحيين انفسهم، وبالتحديد بين ابناء "البيت الواحد"، وهو ما ظهر من خلال حفلة "التراشق على مواقع التواصل الاجتماعي" بين حزبي "​الكتائب اللبنانية​" و"​القوات اللبنانية​". صحيح ان العلاقة بين الحزبين لم تكن دوماً سمناً وعسلاً، ولكنها كانت تبقى ضمن حدود معيّنة، ولكن اعتماد ذكرى اغتيال بشير من أجل استهدافهما لبعض، واعادة نبش الخلافات بين ابناء العم وبالاخص النائبين سامي ونديم الجميل، هو أمر لافت.

من المؤكد أنّ هذا الخلاف لن يتطور اكثر من الحدّة الاعلاميّة، ولن يؤثر على وضع البلد امنياً او اقتصادياً او حتى سياسياً، ولكن من الغريب ان نشهد حزبين يعتبران انفسهما معنيين بالدفاع عن ​حقوق المسيحيين​ (واللبنانيين ايضاً)، يصلان الى هذا الحدّ من الكلام الذي يصعب معه تصديق ان الامور -وان عادت الى مجاريها اعلامياً- ستكون جيّدة بينهما على المدى البعيد. اما ما يزيد من صعوبة الموقف، فهو اساس هذا الخلاف والعائد الى السياسة وعدم القدرة على ارضاء الشريحة المسيحيّة تحديداً في تمثيلها السياسي. فمن ناحية الكتائب، انتهج الحزب الخط المعارض وخسر بالتالي الكثير من المراكز والمناصب التي كان يمكن ان يصل اليها، ولكنه يعتبر انه فاز بتأييد الناس. ومن ناحية القوّات، فهي ارتأت الاعتماد على سياسة "التغيير من الداخل" فانخرطت في التمثيل الحكومي دون ان تنجح ايضاً في فرض نفسها في المراكز والمناصب المنتظرة، ولكنها تعتبر انها فازت بتأييد الناس. فإذا كان تأييد الناس هو القاسم المشترك بينهما، فكيف يدّعي كل منهما اعتبار نفسه "وريث بشير الجميل"؟. فالمسيحيون انقسموا قبل ان يفرض بشير نفسه زعيماً لهم، ولكنهم توحّدوا بعدها ولم يتمكّنوا من ايجاد شخص يستعيد دور بشير ويجسّد افكارهم وطموحاتهم، فانقسموا ولا يزالون، وباتت كل محاولة تقارب بين طرفين من اطرافهم مشروعاً "عجائبياً" سرعان ما يسقط بعد وقت قصير من ابصاره النور، والامثلة كثيرة ومنها الانقسام بين القوات والكتائب، واتفاق "​معراب​".

37 عاماً ولم يتغيّر الوضع المسيحي في لبنان، وزادت الانقسامات في جسمه ووصلت الى حدّ العائلة الواحدة، فهل ينفع بعد اليوم استعمال اسم بشير الجميل لاستقطاب الشارع المسيحي؟ وفي حال صحّت هذه الفرضيّة، من سيتبع المسيحيّون في ظلّ تعدّد الجهات التي تستعمل هذا الاسم وتعتبر انها "الممثل الشرعي الوحيد" له، ان من ناحية السياسة او من ناحية العائلة؟.