هي قصّة إبريق الزيت بين "​القوات​" و"الكتائب". لا تكاد تهدأ "الجبهة" بينهما، بموجب تفاهم على "تصويب البوصلة"، حتى تشتعل مجدّداً، ليس بين الجماهير فحسب، بل بين قواعد من يوصَفون بـ"النخبة"، حيث ترتقي السجالات إلى مستوى التجريح الشخصي وربما أكثر.

يكفي للدلالة على ذلك أن تتحوّل ذكرى يفترض أن تكون "جامعة" للحزبين، رغم كلّ خلافاتهما، أي ذكرى اغتيال الرئيس الأسبق ​بشير الجميل​، إلى مناسبة لتعميق الخلاف وتوسيع الشرخ. في المناسبة، جدّد رئيس حزب "الكتائب" ​سامي الجميل​ الحديث عن كراسٍ من "كرتون" ومحاصصاتٍ وتسوياتٍ، في انتقادٍ ضمني لـ"القوات".

لم يتأخّر الردّ، فخرج من "القوات" من يتحدّث عن "ولد" على رأس "الكتائب" حوّل الحزب العريق إلى أصغر حزب، ومن ثمّ إلى أصغر كتلة نيابية، ردٌّ جرّ بدوره ردوداً وردوداً مضادة قبل أن تهدأ "الجبهة" مجدّداً، بناءً على قرارٍ قياديّ يبدو أنّه بات "لزوم ما لا يلزم"، في ظلّ الصراع المستمرّ بين الحزبين على "الصحن الشعبي" نفسه...

البادئ أظلم؟!

قد لا تكون المرّة الأولى التي يتساجل فيها حزبا "القوات" و"الكتائب" علناً، بعدما شهدت العلاقة المثيرة للجدل بينهما جولاتٍ حامية من الكباش الحادّ في الآونة الأخيرة، بدأت منذ تموضع "الكتائبيين" في المعارضة وبقاء "القواتيين" في السلطة، ووصلت إلى أوجها في ظلّ الحكومة الحالية، والتحاق "القوات" بركب "المعارضة من الداخل".

إلا أنّ ما حصل في ذكرى اغتيال الرئيس الأسبق بشير الجميل بدا فاقعاً لكثيرين، ليس فقط لكون الحزبين تفاهما منذ فترةٍ غير قصيرة على "تطبيع العلاقات"، إن جاز التعبير، ولكن أيضاً لتضمّن السجالات بينهما عباراتٍ لا تليق بالخصوم، وليس حتى بين من كانوا في يومٍ من الأيام حلفاء، ورفاق سلاح، أو حتى بالحدّ الأدنى أصدقاء.

بالنسبة إلى "القواتيين"، البادئ هو الأظلم، والنائب سامي الجميل هو من يتحمّل مسؤولية ما حصل، بإصراره على "استفزاز" القواعد "القواتية" في كلّ مناسبة، متوهّماً أنّه بـ"الشعبوية"، يستطيع أن يستقطب جمهور "القوات"، وهو ما لن يحصل، استناداً إلى تجربة ​الانتخابات النيابية​ الأخيرة، والتي يبدو أنّ "الكتائب" لم تخرج بعد من "صدمة" نتائجها. وباستغلال الخلاف بين الجميل وابن عمّه و"رفيقه" في الحزب النائب ​نديم الجميل​، يتعمّد "القواتيون" المقارنة بين الرجلين، للقول إنّ سامي الجميل هو من يفتعل السجال مع "القوات"، وأنّ الأخيرة تجد نفسها في موقع المضطرة للردّ، احتراماً لنفسها أولاً، ولتاريخها ثانياً، وحتى للعلاقة مع "الكتائب" التي لطالما كان يطبعها الودّ والاحترام، قبل أن يتبوّأ الجميل سُدّة الرئاسة، وينحدر بـ"الكتائب" إلى المستوى الذي وصلت إليه اليوم، كما يقولون.

المعارضة الحقيقية...

هذا المنطق "القواتي" لا يلقى أيّ صدًى لدى ​القيادة​ "الكتائبية" التي تعتبر أنّ "البادئ الأظلم" في هذه الحالة ليس سوى "القوات" التي ذهبت إلى التجريح الشخصي، رداً على خطابٍ لرئيس حزب "الكتائب" لم يأتِ على ذكرها بالاسم، ولو حتى لمرّةٍ واحدةٍ. وفيما يسأل "الكتائبيون" عمّا إذا كان بات من الممنوع على قيادات "الكتائب"، وفي مقدّمهم الجميل، التعبير عن رأيهم بصراحة وشفافية، يشيرون إلى أنّ ما انتقده الجميل أصلاً في خطابه سبق أن انتقده مرّاتٍ ومرّات، خصوصاً في ما يتعلّق بمنطق "المحاصصات" السائد في ​الدولة​، شاءت "القوات" أم أبت.

أما المفارقة، بالنسبة إلى "الكتائبيين"، فتكمن في أنّ "القوات" التي تشرّع لنفسها بدعة "المعارضة من الداخل"، تمنع على الآخرين ممارسة المعارضة الفعليّة، بمفهومها الحقيقيّ غير القابل للنقاش، بل تذهب إلى حدّ نكران وجود مثل هذه المعارضة، وادّعاء احتكار العمل المعارض، مع أنّ وجودها في السلطة يفرغ هذه المعارضة من مضمونها، إن وُجِد، باعتبار أنّ أحداً من داخل الحكومة ليس مخوَّلاً قيادة معارضةٍ يفترض أن تشمله، كونه أحد مكوّنات السلطة، بمُعزَلٍ عن مدى دقّة "المظلومية" التي يتعرّض لها، معطوفة على "محاولات العزل والإقصاء"، والتي تنتفي في حال أعطي "حصّة" من ​التعيينات​، كما أوحت ​النقاش​ات في أكثر من مناسبة.

وإذا كان للسجالات المستمرّة بوتيرة تصاعديّة بين "القوات" و"الكتائب"، والعابرة لكلّ التفاهمات "الكرتونيّة"، إن جاز التعبير، تفسيرٌ بسيطٌ يتعلق بالتنافس القائم بينهما على استقطاب جمهورٍ يكاد يكون مشتركاً، فإنّ الخصم المشترك للحزبين، أي "​التيار الوطني الحر​"، والذي يشكو الطرفان من محاولاته تحجيمهما للاستئثار بالساحة ​المسيحية​ ككلّ، يكاد ينصّب نفسه "الرابح الأكبر"، وهو يضحك في سرّه كلّما انفجرت العلاقة بينهما، لأنه يدرك أنّ مشروع "مواجهة العهد" سيفشل، طالما بقيت العقليّة نفسها هي المستأثرة به، عقليّة لم تعد "الشعبوية" وحدها تتحكّم بها، بعدما التحقت بها عناصر تبدو أكثر خطورة، من حبّ الظهور إلى الاستعراض وما لفّ لفّهما.

"غرائب" وأكثر...

مثيرة للجدل تبدو العلاقة بين "القوات" و"الكتائب"، وسط كلّ "الغرائب" التي تعجّ بها الساحة اللبنانية.

فالحزبان يتقاسمان أكثر بكثير ممّا يخال المرء، ومع ذلك لا يجمعهما سوى الخلاف والتناحر. مبادئهما تكاد تكون واحدة، تماماً كمواقفهم الاستراتيجية من الملفات الحامية، سواء في الداخل، وتحديداً ما يتّصل بدور "​حزب الله​" وسلاحه، أوحتى في الخارج، وما يتّصل بعلاقات لبنان الإقليمية والدوليّة.

وأبعد من المبادئ، فإنّ ما يجمعهما يمتدّ إلى العلاقة مع سائر الأفرقاء، وتحديداً مع "العهد"، الذي يتّفق "القواتيون" و"الكتائبيون" على الشكوى من تمدّده على حسابهما، ومن مخطّطٍ لإقصائهما مهما كان الثمن، وبكلّ الوسائل الممكنة والمُتاحة، فإذا بهما يقدّمان له كلّ السبُل الكفيلة بتحقيق غرضه، على طبقٍ من فضّة.

هي قصّة إبريق الزيت. هي قصّة تنافسٍ على صحنٍ شعبيّ واحد. هي قصّة صراع على الزعامة الثانية مسيحياً. هي قصّة خلافٍ تاريخيّ لم يخرج منه طرفا الاشتباك فيه. كلّها نظرياتٌ وفرضياتٌ تحتمل الصواب، بيد أنّ الثابت يبقى واحداً: الحزبان هما الخاسران من كلّ ذلك، وهما المسؤولان عن ذلك أولاً وأخيراً!.