ما ان عاد الرئيس ميشال عون من نيويورك الى ​بيروت​، حتى باشَر بتجميع الأجزاء الناقصة من «بازل» الاضطراب المالي والاجتماعي الذي ساد ​لبنان​ خلال فترة غيابه، واتخذ بعد عودته شَكل الاحتجاج الشعبي. فيما كان وزير الخارجية ​جبران باسيل​ قد عبّر عمّا يدور في رأس عون، بقوله إنّ هناك شركاء في الداخل يتآمرون على ​الاقتصاد​.

يشعر رئيس الجمهورية بأنه كان «عرضة لاستهداف مَنهجي ومقصود أثناء وجوده في نيويورك للمشاركة في أعمال ​الجمعية العمومية​ للامم المتحدة، سواء عبر موجة الإشاعات التي هدفت الى تشويه صورته وتحريض اللبنانيين عليه، أو من خلال افتعال أزمات متحركة في الشارع يُغذّيها «الوقود» السياسي».

ووفق المعلومات المتسرّبة من محيط عون، تمكنت ​الاجهزة الامنية​ خلال الايام الماضية من معرفة كل الحقائق المتصلة بـ«مطابخ الاشاعات»، التي خضعت لرصد دقيق. وبالتالي، أصبحت هويّة المنخرطين فيها ودوافعهم معروفة بالكامل لدى ​القصر الجمهوري​، «ما سمح بتنفيذ عملية تحذيرية مُضادة أوصَلت الرسائل القاسية والضرورية الى من يعنيه الأمر»، على ما تؤكد شخصية بارزة في فريق عون.

والانطباع السائد في أوساط القصر انّ بعض التحركات الاحتجاجية لم تكن تلقائية وبريئة، وانّ الشعارات التي رُفعَت خلالها، من نوع المطالبة برحيل رئيس الجمهورية وإسقاط النظام، كانت موجّهة ومُبرمجة، لتحقيق غايات سياسية لا مطلبية، من دون أن تنفي انّ هناك أيضاً احتجاجات عفوية منطلقة من أسباب مشروعة.

وخلافاً لِما جرى ترويجه في بيروت، يؤكد قريبون من عون انّ رحلته الى نيويورك خَلت من مظاهر البَذخ، لافتة الى أنه كان في معظم الاحيان يتناول وجبات الغداء والعشاء في غرفته في الفندق، «وهو لا يعرف شيئاً عن المطعم الفخم الذي جرى الزَّعم بأنه والوفد المرافق تناولا الطعام فيه».

ويلفت هؤلاء الى أنّ عون أقام في فندق «بلازا» المصنّف، على الرغم من عراقته، بأنه الأقل كلفة بين الفنادق القريبة من مقر الامم المتحدة والمخصصة لإقامة رؤساء البعثات المشاركة في اجتماعات الجمعية العمومية، فيما أقام الوفد الاعلامي في فندق آخر بكلفة عادية.

وأبعد من شكل الزيارة ومواصفاتها اللوجستية، فإنّ عون مقتنع بأنّ جوهر الاستهداف الذي يتعرض له يَكمُن في انزعاج البعض من إصراره على التمسّك بخياراته الاستراتيجية التي أعاد تثبيتها وتأكيدها من قلب ​الولايات المتحدة​، عبر خطابه المرتفع السقف من على منبر الامم المتحدة.

لم يَستسِغ هذا البعض، وفق المصادر الواسعة الاطلاع في ​بعبدا​، إعلان عون استعداده إذا اضطر الأمر للتحاور مباشرة مع ​الدولة السورية​ من أجل معالجة ملف ​النزوح​، «مُخالفاً بذلك حسابات او مصالح القوى الدولية والاقليمية والمحلية التي لا تزال ترفض حصول تواصل لبناني رسمي رفيع المستوى مع دمشق، إمّا من باب العداء العَبثي للرئيس ​بشار الأسد​، وإمّا من باب السعي المتواصل الى الاستثمار السياسي لورقة ​النازحين​ وتوظيفها في الضغط على ​سوريا​ و«حزب الله» من دون مراعاة أوضاع لبنان الدقيقة ومصالحه الحيوية».

جانب آخر في خطاب عون أزعَج بعض الداخل والخارج، تبعاً لاستنتاجات المصادر، وهو «إرفاقه الموقف الداعم للقرار 1701 بالتشديد الصريح على حق لبنان في استخدام كل الوسائل الممكنة للدفاع عن النفس في مواجهة أي اعتداء اسرائيلي، مع ما يعنيه ذلك ضمناً من تأكيد حق ​المقاومة​ والجيش في الرد الدفاعي، الأمر الذي لا يرضي واشنطن وحلفاءها في لبنان».

وتلفت المصادر اللصيقة بعون الى انّ طروحاته الجريئة وضعت المتضررين منها في الساحة الداخلية أمام احتمالين:

- الرَدّ على رسائل عون عبر مواجهة سياسية مكشوفة من قلب مجلس الوزراء، لكن يبدو انّ المعنيين بِخَوض تلك المواجهة تخَوّفوا من ان يدفع هذا السيناريو رئيس الجمهورية و«التيار الوطني الحر» الى إسقاط الحكومة، وهذا تقدير صحيح في رأي المصادر، «لأنّ عون والتيار لن يقبلا أن تغدو الحكومة خنجراً مسموماً في ظهر العهد، من دون أن يُحرّكا ساكناً.»

- امّا الخيار الآخر، الذي اعتمدته «الجهات المتواطئة» وفق استنتاج المصادر، فهو استغلال الواقع الاقتصادي والمالي واستثمار عوارض الازمة الاجتماعية والمعيشية حتى أقصى الحدود الممكنة، لمحاصرة عون والضغط عليه.

لا تنكر المصادر الوثيقة الصِلة بعون انّ هناك عوامل موضوعية للأزمة المالية الاقتصادية التي تلقي بوطأتها الثقيلة على الدولة واللبنانيين، لكنها في الوقت نفسه تلفت الى انّ هناك مَن تَعمّد التأزيم الاضافي للواقع المَشكو منه، ورَفده بمزيد من المواد المشتعلة، بغية توظيفه في معركة إضعاف العهد وإحراجه.

وتشير المصادر الى أنّ عون كان قد شارك، قبل سفره الى نيويورك، في اقتراح معالجات معينة لمسألة المحروقات، «لكنه فوجئ بتأخير مُتعمّد لها، بالترافق مع الاستثمار السياسي في عناصر الازمة والتأزيم»، موضِحة انه عندما صرّح بأنه لم يكن مطّلعاً على ما جرى أثناء غيابه، «إنما قَصَد أنّ هناك أمراً مَشبوهاً حصل وأدّى الى البلبلة التي حدثت، في تلميح الى تَآمر او انقلاب مُحتمل على التفاهم المُسبَق الذي كان قد تمّ على الحلول المفترضة».

وتلفت المصادر الى انّ عون يدفع بقوة نحو الانتقال من الاقتصاد الرَيعي الى الاقتصاد المُنتج، «ما شَكّل إزعاجاً إضافياً للفريق المُمتعض من خياراته، والذي اعتاد تحقيق الارباح السريعة والسهلة من السلوك الريعي، طيلة العقود السابقة».

وينبّه القريبون من عون مَن يظن أنّ في إمكانه استخدام الحركة المطلبية لتدفيع رئيس الجمهورية ثمن خياراته السياسية والاقتصادية، إنما يرتكب خطأ كبيراً في الحسابات، «وعلى هؤلاء أن يعلموا أنّ هناك في قصر بعبدا رئيساً حقيقياً، قرّر أن يمارس صلاحياته الدستورية حتى أقصى الحدود التي يسمح بها اتفاق الطائف».

ويؤكد هؤلاء انّ الجهات المتربّصة بعون لن تتمكن منه مهما فعلت، مُحذّرين من انه لن يبقى صابراً الى ما لا نهاية، ومُنبهّين الى انه إذا لم يَرتدع المتواطئون عليه ويتوقّفوا عن اللعب بالنار، فهو سَيشنّ هجوماً مضاداً، متسلّحاً بخيارات عدة، من بينها:

- «دعوة شعب لبنان العظيم الى التحرّك مجدداً، وإسماع المتآمرين هدير أصواتهم وخبطات أقدامهم في الساحات».

- «كَشف المسؤولين عن الهدر والفساد وتسميتهم بأسمائهم، لأنّ عون لن يقبل تحميله تبعات أزمة متراكمة وَرثها عن الآخرين، بينما المتسببون بها يُزايدون عليه».

- «فَرض الحلول للخروج المُتدرّج من نفق الازمة الاقتصادية والمالية، ومن لا يعجبه فليَستقِل من الحكومة».

ويشير المحيطون بعون الى أنه أصبح على قاب قوسين او أدنى من استخدام هذه الاوراق، «ما لم يَكف المتآمرون عن استهداف العهد إمّا بطريقة مباشرة، وإمّا عبر إمساكه من اليد التي توجعه، أي الاقتصاد».

ولعل المعادلة التي تختصر موقف عون في هذه اللحظة، تِبعاً لوزير قريب منه، هي الآتية: «روقوا... وإلّا».