لا يُمكن للعالم أنْ ينسى مشهد جريمة الاحتلال الإسرائيلي باغتيال الفتى محمد الدُرَّة بدمٍ باردٍ، وهو يحتمي بحضن والده جمال الذي أُصيب بجراح، ما زال يُعاني آثارها حتى اليوم، وهو يتلطّى بحضن والده خلف برميل إسمنتي، خلال تواجدهما عند مُفترق "نتساريم"، في قطاع غزّة، بتاريخ 30 أيلول 2000، في اليوم الثالث لاندلاع "الانتفاضة الثانية" - "انتفاضة الأقصى".

انتفض ​العالم​ أجمع ضد الوحشية الإسرائيلية، التي تعمّدت قتل فتى، لم يتجاوز الـ12 عاماً، الأمر الذي دفع ب​حكومة​ الاحتلال الإسرائيلي، إلى التراجع عن تحمّلها مسؤولية استشهاده، بعدما كانت قد أعلنتها في ​الساعات​ الأولى لارتكاب الجريمة.

وقد دحضت مُحاولة الاحتلال التهرُّب من جريمة القتل العمد، بتوثيقها بعدسة المُصوِّر طلال حسن أبو رحمة، الذي أقسم اليمين على أنّ "جنود الاحتلال تعمّدوا قتل محمد بدمٍ باردٍ عن سابق ترصُّد وتصميم".

باستشهاده غدا محمد وليد "الانتفاضة الأولى"... وشهيد "الانتفاضة الثانية"، شاهداً على همجية الاحتلال بالقتل العمد، والتي لم تردعه أي مواثيق أو أعراف أو إدانات دولية، حيث ما زال يُمارسها بدمٍ باردٍ من اغتيال فارس عودة، إلى إيمان حجو و​محمد أبو خضير​، وآخرين، يتركهم على الأرض ينزفون، مانعاً وصول سيّارات الإسعاف لتقديم العلاج لهم، ما يُودّي إلى استشهادهم، في جريمة يُندى لها الجبين، والبعض منها جرى توثيقه في فيديو، حيث يظهر بشكل واضح لحظة ​الإعدام​.

وعلى الرغم من توثيق جرائم الاحتلال، إلا أنّه يُحاول التهرّب ونكران ذلك، وهو ما أقدم عليه رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، الذي كتب عبر صفحته على موقع التواصل الاجتماعي "​فيسبوك​"، بتاريخ 20 أيار 2013، بأنّ "الطفل محمد الدُرَّة حَيُّ يُرزق".

الوالدان واللحظات الأليمة

من جهته، استعاد الوالد جمال الدُرَّة في كتابي "فرسان ​فلسطين​"، المشهد ذاته عن اللحظات الأليمة، وهو لا يمل ولا يكل من إعادة ذلك، طالما أنّ "الهدف كشف الجريمة الإسرائيلية، ونيل حقّي وحق إبني

من الجُناة، وفضح الادّعاءات الإسرائيلية الزائفة بأنّ إبني الشهيد حَيٌّ يُرزق، وأنّ الجريمة التي وقعت، مرّة يقولون بأنّها بأيدي ​الشرطة الفلسطينية​، وأخرى بأنّ الفيديو "مُفبرك"، وفي ثالثة ينفون ذلك جُملة وتفصيلاً".

لكن محمد الشهيد، وُلِدَ من جديد بعد عامين على استشهاده، بأنْ حمل اسمه شقيقه محمد، وقالت الوالدة أمال عن ولادة نجلها: "بدأتُ أشعر بأنّ طفلي يتحرّك في أحشائي في يوم ميلاد محمد الدُرَّة نفسه، 18 شباط 2002، وتَوجّهتُ إلى عيادة "​الأونروا​" في مخيّم ​البريج​ - وهي العيادة ذاتها، التي وُلِدَ فيها محمد في العام 1988 - واستخدمتُ جهاز فحص الجنين وجنسه، وتأكد إحساسي بأنّه مولود ذكر، بعدما كنتُ قد دعوتُ ربّي أنْ يُعوّضني بمحمد، فسارعنا إلى إطلاق إسم محمد عليه، قبل أنْ يُبصر النور... وعندما أبصر النور في عيادة الدكتور محمد زيني في غزّة، كان ذلك ليل الجمعة 29 تشرين الثاني 2002، لم يكن محمد يحمل إسم أخيه الشهيد فحسب، بل أيضاً سِماتَه لأنّه يُشبهه في كل شيء، فكم أنتَ كريم يا رب، وإنّني أشعرُ بسعادةٍ كبيرةٍ، فأنا أعرف معنى ولادة الطفل محمد، معناه خطير على الإسرائيليين، وخاصة رئيس وزرائهم آرييل ​شارون​، حيث أشعر بأنّني وضعتُ هديّة غير سعيدة له بالذات، لمناسبة فوزه ب​الانتخابات​ بزعامة حزب "الليكود"، والفرحة تملأ بيتنا، وهو يعيش غصّة، لأنّ النساء الفلسطينيات يلدن بدل الشهيد الآلاف".

واعتبر إياد الدُرَّة، الشقيق الأكبر أنّ "إنجاب والدتي لـ"محمد الصغير"، رسالة إلى شارون تقول له بأنّه مهما قتلتَ من ​الأطفال​، فإنّ الله يعوّضنا، إسم محمد الدُرَّة حَيٌّ يُرزق، ولعنة تُطارد قادة الكيان الصهيوني".

وليد الانتفاضة وشهيدها

وُلِدَ محمد جمال الدرَّة بتاريخ 18 شباط 1988 في "الانتفاضة الأولى" - "انتفاضة الحجارة"، وعاش في مخيّم البريج للاجئين، الذي تُديره وكالة "الأونروا" في قطاع غزّة، في كنف أسرة مؤلّفة من 9 أفراد (الوالد جمال والأم آمال، و7 أولاد: 5 صبيان وبنتان)، كان حينها ترتيبه الثاني بعد شقيقه إياد (مواليد 1986) ويصغره أحمد (مواليد 1991)، آدم (مواليد 1992)، نور (مواليد 1994)، بسمة (مواليد 1996) وباسم (مواليد 1998)، ثم رُزِقَتْ العائلة بعد استشهاده بأربعة أولاد (صبيان وبنتان)، وهم: محمد الصغير (مواليد 29 تشرين الثاني 2002)، رؤية (مواليد 2005)، براءة (مواليد 2006) ومحمود (مواليد 2009).

تمتّع محمد بشخصية قويّة على الرغم من صغر سنه، وكان يتابع تعليمه في الصف الخامس الابتدائي في "مدرسة ذكور البريج الابتدائية"...

باستشهاده غدا محمد مولود "الانتفاضة الأولى"... وشهيد "الانتفاضة الثانية"...