منذ ما قبل اندلاع كارثة ​الحرائق​ المتنقّلة بين المناطق ال​لبنان​ية، وما أفرزته من استنفارٍ وغضبٍ، بدا الوضع في لبنان ذاهباً نحو الانفجار، من دون سابق إنذار.

فجأةً، توتّرت العلاقة بين القوى السياسية، المتفاهمة منها والمتناحرة على حدّ سواء. انهارت الكثير من التسويات، وانتهى مفعول المصالحات، لتعود المشاحنات إلى صلب المشهد، ويتصدّر الشارع الأحداث من جديد، مع خروج تظاهراتٍ وتلويحٍ بأخرى، يسعى لتنظيمها أفرقاء من قلب السلطة قبل المعارضة.

طلبٌ واحدٌ جمع المتخاصمين، وبينهم شركاء مفترضون في ​الحكومة​، ألا وهو استقالة الأخيرة. للأمر مبرّراته، باعتبار أنّ الحكومة هي المسؤولة قانوناً عن كلّ الأزمات المتفاقمة، وعليها تحمّل مسؤوليّاتها، وثانياً لكونها باتت أعجز عن تحقيق تطلّعاتها، طالما أنّ عناصر شللها موجودة داخلها.

ولكن، ماذا لو استقالت الحكومة اليوم قبل الغد؟ هل تُحَلّ الأزمات تلقائياً، وتُعبَّد الطريق أمام الانفراج الموعود، فتصل ال​مساعدات​ المجمَّدة؟ وهل يمكن تشكيل حكومةٍ جديدةٍ تكون قادرة على تحقيق ما تعجز عنه الحكومة الحالية، الغارقة في مستنقعٍ يتشارك الجميع المسؤولية عنه، بالتساوي؟!.

مطلب حقّ...

في المبدأ، يمكن القول إنّ استقالة الحكومة، في أيّ بلدٍ من البلدان، يعاني نصف ما يعانيه لبنان اليوم، هو مطلب حقّ بكلّ ما للكلمة من معنى، خصوصاً أنّ لمثل هذا المطلب مبرّرات تتفوّق في الواقعية والمنطق، من حيث الشكل، على كلّ الحُجَج التي يمكن أن يقدّمها معارضوه، للتمسّك بالحكومة.

أكثر من ذلك، ثمّة من يقول إنّ "فضيحة" الحرائق المتنقّلة التي ضربت العديد من المناطق اللبنانية كافية لإطلاق "رصاصة الرحمة" على حكومةٍ لم تستطع مواجهة "غضب الطبيعة" سوى بالدعاء بهطول ​الأمطار​، ومن ثمّ بالتهليل بـ"الرحمة الإلهية" التي جلبت الأمطار، فخفّفت هول الكارثة ومداها، فضلاً عن بعض الممارسات "الشعبويّة" التي لجأ إليها بعض المسؤولين، وانجرارهم إلى مهاترات سجالات لا طائل منها، بدل تحمّل المسؤولية الأخلاقيّة قبل السياسيّة عمّا حصل.

فبمعزَلٍ عمّا إذا كانت الحرائق مفتعلة، كما حاول بعض الأفرقاء الإيحاء، ومع أنّها ظاهرة طبيعية يمكن أن تحصل في أيّ بلدٍ من البلدان، خصوصاً في ظلّ ​الطقس​ الحار الذي يشهده لبنان هذه الأيام، فإنّ ما حصل بدا دليل إدانة للحكومة، على التقصير بالحدّ الأدنى، وهو ما تجلّى بعدم وجود أيّ استعداد لوجستيّ لموجهة أيّ كارثة طبيعية يمكن أن تحصل، بل بالتفريط بطائرات الإنقاذ وإطفاء الحرائق، التي تبيّن أنّها متوقّفة عن العمل منذ سنوات، وهو ما دفع ​رئيس الجمهورية​ ​ميشال عون​ إلى طلب فتح تحقيق بالأمر.

وإذا كانت الحرائق وحدها كفيلة بدفع الحكومة إلى الاستقالة، فإنّ العوامل التي تدفع إلى مثل هذا الخيار لا يمكن حصرها بها، نتيجة تراكماتٍ أوقعت الحكومة نفسها بها منذ تشكيلها، في ضوء فشلها في تحقيق الإنجازات، بل في تنفيذ ما تعهّدت به في بيانها الوزاري، حين ارتأت تسمية نفسها بـ"حكومة إلى العمل". ولعلّ ​الأزمة​ الاقتصادية المتفاقمة التي يشهدها لبنان منذ فترة خير دليلٍ على ذلك، وسط التهويل الآخذ في التفاقم بذهاب البلاد نحو الانهيار الاقتصادي، وفي ظلّ ما يُحكى عن أنّ مساعدات مؤتمر "سيدر" لم تعد مطروحة أصلاً، وهو واقعٌ لا يدعو إلى التفاؤل، ولو أصرّ البعض في الحكومة، خصوصاً من المحسوبين على العهد، على أنّه يندرج في إطار الإشاعات المغرضة، والأزمات المفتعلة للتصويب على فريقهم السياسيّ.

... يراد به باطل؟!

انطلاقاً ممّا سبق، كثيرة هي الأسباب التي تدفع، منطقياً، أيّ حكومةٍ في أيّ نظامٍ ديمقراطي، إلى الاستقالة الطوعية أو القسرية، لفسح المجال أمام حكومةٍ أخرى، قد تكون قادرة على تعويض الخسائر، وإنقاذ البلاد من الانهيار.

ولعلّ "شعبويّة" مثل هذا المطلب اليوم تدفع الكثير من القوى، بما فيها تلك الممثَّلة في الحكومة، في مفارقةٍ غريبةٍ عجيبة لا تحصل إلا في لبنان، إلى اعتماده، بل وضع نفسها في موقع المعارضة، من دون أن تجرؤ حتى على أن تكون "السبّاقة"، فتضحّي بمقاعدها في الحكومة لتنسجم مع نفسها بالحدّ الأدنى، علماً أنّ باب الاتهامات وتقاذف كرة المسؤولية عن ذلك مفتوحٌ على مصراعيْه بين المكوّنات الحكومية، وأنّ التصويب على مكوّنٍ دون آخر لا يبدو في مكانه، خصوصاً إذا ما أدّى ذلك إلى تبرئة قوى كانت من "الثوابت" الحكومية منذ عقود، وتحديداً منذ توقيع ​اتفاق الطائف​ حتى اليوم.

من هنا، ثمّة من يعتبر أنّ مطلب الحقّ هذا يُراد به باطل، وأنّ أحداً لا يريد فعلاً استقالة الحكومة، لأنّ مثل هذه الاستقالة لا يمكن أن تؤدي إلى الانفراج، أو أن تكون حلاً، في ضوء الواقع اللبناني المعروف، بل من شأنها أن تضيف أزمة جديدة إلى سلسلة الأزمات المتلاحقة، وهي أزمة قد تكون أخطر من كلّ سابقاتها، وتوقع البلد في شللٍ وفراغٍ لا تُحمَد عقباه، فيصبح مجدّداً تحت رحمة حكومة تصريف أعمالٍ لا حول ولا قوة لها. وقد يكون مفيداً في هذا السياق، استذكار الوقت المضني الذي استغرقه ​تشكيل الحكومة​، وهو ما يُرجَّح أن يتكرّر في حال استقالة الحكومة، بل يُعتقَد أنّ المهمّة ستكون أصعب هذه المرة، في ظلّ التشنّج الواضح الذي تشهده الساحة السياسية.

وإذا كان البعض يعتقد أنّ تشكيل حكومة كفاءات مصغّرة، أو ما يُعرَف بـ "حكومة تكنوقراط"، مؤلفة من اختصاصيين محايدين إلى حدّ ما، ولو بصورة نسبيّة، قد يسهّل المهمّة، فإنّ الأكيد أنّ قوى أساسيّة ستتصدّى لمثل هذا المطلب، وستتمسّك مجدّداً بحكومة الوفاق الوطني التي أثبتت فشلها، بذريعة الظروف السياسية التي لا تسمح بغير ذلك. وبالتالي، فإنّ أقصى الطموح، بعد فترةٍ طويلةٍ من الشلل والوقت الضائع، لن يكون سوى باستنساخ الحكومة الحاليّة، وتنقيحها ببعض الأسماء لا أكثر ولا أقلّ، مع إمكان استثناء فريقٍ أو اثنين، وهو ما لن يؤدّي إلى أيّ تغيير حقيقيّ على أرض الواقع.

فقط في لبنان...

في كلّ دول العالم، يمكن لأيّ تقصيرٍ أو خطأ بسيط أن يؤدّي إلى استقالة الحكومة فوراً، بمُعزَلٍ عمّا إذا كانت الأخيرة تتعرّض لضغوطٍ، أو "مؤامرة" ما، كما يحلو للبعض التبرير،لأنّ عليها أن تتحمّل المسؤولية، ولو كانت معنويّة.

لكنّ تحمّل المسؤولية ليس هو الهدف بحدّ ذاته، بل الإصلاح والحلّ، بحيث يخرج المقصِّر ليسمح لغيره بالدخول مكانه، وبالتالي تحقيق رؤيته ومشروعه، لعلّه ينجح حيث فشل سلفه، فيكون الحلّ على يده وعن طريقه.

مثل هذا السيناريو يبقى مستبعَداً في لبنان، حيث أنّ الاستقالة لن تؤدي سوى لإضاعة بعض الوقت، قبل أن يعود نفس الأشخاص، أو وكلاء عنهم، في حكومةٍ لا جديد فيها سوى اسمها، إن تغيّر، واقعٌ مستمرّ منذ عقودٍ، ولا يبدو أنّه يوشك على الانتهاء، في ظلّ "تحالف المتخاصمين" على التمسّك بالسلطة، مهما كان الثمن...