كل من يتحرّك على الطرقات في ​لبنان​، يلمس أنّ التحرّكات الشعبيّة والطرقات المَقطوعة تفوق بكثير تلك التي تقوم وسائل الإعلام بتغطيتها. ويدلّ عدد المُشاركين في التظاهرات الأساسيّة والفرعيّة الصغيرة، والكلام الذي يقوله المُتظاهرون والمُعتصمون، على أنّ حجم الغضب الشعبي كبير جدًا. فما هي الأسباب، ومن يُشارك في الإعتراضات، ولأي أهداف، وكيف يُمكن أن تنتهي هذه الحركة الإحتجاجيّة الواسعة، وما هي الخيارات المُتاحة أمام السُلطة؟.

بالنسبة إلى الأسباب، فهي لا تُعدّ ولا تُحصى، وتبدأ بتراكمات عُمرها عشرات السنوات، وتمرّ بسياسات إقتصاديّة وماليّة وإجتماعيّة فاشلة لم تتغيّر منذ سنوات طويلة، وكذلك بمطبّات أمنيّة وسياسيّة جرى توريط لبنان بها، وتصل إلى تصرّفات فوقيّة وتصاريح إستفزازيّة صدرت عن وزراء ومسؤولين في السُلطة في المرحلة الأخيرة. والأهم من كل ما سبق أنّ السُلطة التنفيذيّة أساءت تقدير حجم ​الأزمة​ المعيشيّة والحياتيّة التي تعيشها أغلبيّة كبيرة من ​الشعب اللبناني​، حيث يعجز الناس عن إيجاد عمل، وعن تأمين الحد الأدنى من مُتطلبات ​الحياة​، ليس فقط من سكن وطبابة وتعليم، ولكن أيضًا من مأكل ومشرب!.

وبالنسبة إلى الجهات التي تُشارك في الإعتراضات فهي تجمع شرائح واسعة من المُجتمع اللبناني، لكل منها مآخذ مُعيّنة على السُلطة الحاكمة. وينقسم المُتظاهرون إلى قُسمين رئيسيّين: القسم الأوّل ناقم على كلّ السُلطة لأسباب إقتصاديّة وحياتيّة ومعيشيّة، وهو يُعاني من ضيقة ماليّة خانقة، والقسم الثاني ناقم على جزء من السُلطة السياسيّة بخلفيّات سياسيّة حينًا، وبخلفيّات مُرتبطة بأفكار مُسبقة ناجمة من عمليّات غسل دماغ سياسي وطائفي ومذهبي حينًا آخر. وفي هذا السياق، يُوجد رب العائلة العاجز عن إعالة عائلته، والمريض العاجز عن الدُخول إلى المُستشفى، والعامل الذي خسر وظيفته وبات يعيش تحت خط الفُقر، والمُتخرّج العاجز عن إيجاد عمل، إلخ... كما يُوجد الرافض لكل الأحزاب دفعة واحدة، أو الحزبي المَحقون من هذا الحزب أو ذاك، والمُتظاهر المُعترض على ​رئيس الجمهورية​، أو رئيس ​مجلس النواب​، أو رئيس الحُكومة، أو كلّهم معًا مع الوزراء والنواب. ويُوجد المُتظاهرالذي يرفع مطالب أخرى تطال فئات مُحدّدة دون سواها، مثل الراغبين ب​العفو العام​، والمُوظّفين أو العسكريّين المُتقاعدين الرافضين لأيّ حسم من رواتبهم، والأمهات اللبنانيّات المُتزوّجات من غير لبنانيّين المُطالبين بمنح أولادهم الهويّة اللبنانيّة، وكبار السنّ المُطالبين بحق إستمرار الطبابةوبضمان ​الشيخوخة​، وغيرها الكثير من المطالب التي تعني شرائح صغيرة من المُجتمع اللبناني.

وفي ما خصّ الأهداف فهي مُتناقضة، ولوّ أنّ الشُعار العام المَرفوع هو "كلّن يعني كلّن"، وهو ما لا يُمكن تحقيقه ميدانيًا، لسبب بسيط أنّ إستقالة كل المسؤولين دُفعة واحدة، لا يُمكن أن تتمّ، بالتزامن مع تنظيم إنتخابات مُبكرة –كما يُطالب المُتظاهرون. فأيّ عمليّة إنتخابيّة تحتاج لسُلطة تُديرها وتنظّمها، والدَعوة لأن تقوم ​قيادة الجيش اللبناني​ بإنقلاب وبإستلام الحُكم–كما حصل في بعض الدول العربيّة التي شهدت ثورات شعبيّة، تصدر عن مُتظاهرين يجهلون كيف تتمّ ​التعيينات​ في المُؤسّسة العسكريّة في لبنان، والسُلطات المَمنوحة لهذه الأخيرة. ولا شكّ أن حجر المُتظاهرين كبير–إذا جاز التعبير، فهم يُطالبون بإٍستقالة رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب والنواب وليس فقط رئيس ​الحكومة​ والوزراء، وهذا أمر غير وارد لدى هؤلاء، حيث أنّ الإحتمال الوحيد الوارد يتمثّل بإستقالة رئيس الحُكومة في أفضل الأحوال فقط.

وعمّا يُمكن أن تؤول إليه الحركة الشعبيّة الإحتجاجيّة الواسعة في ظلّ التناقض الفاضح بين المطالب من جهة ومدى إستجابة المَعنيين بهذه المطالب من جهة أخرى، فهي مَفتوحة على كل الإحتمالات، باعتبار أنّ الأحداث مُتحرّكة بشكل سريع. لكن على ما يبدو،وإنطلاقًا من حجم النقمة الشعبيّة، فإنّ كل حديث عن "ورقة إصلاحيّة" وعن إجراءات سريعة من قبل الحُكومة الحالية التي إستقال منها وزراء حزب "القوّات"، تجاوزه الزمن، حيث من المُتوقع أن يُواجه أيّ إعلان عن إجراءات إصلاحيّة من قبل نفس السُلطة الحاكمة، بتجديد الدعوات إلى التظاهر و​قطع الطرقات​، حتى لو جرى الإعلان عن تعديل جزئي للحُكومة وعن تغيير عدد من الوزراء بالتزامن مع سلّة الإقتراحات الإصلاحيّة. وبالنسبة إلى خيار إستقالة رئيس الحكومة، فهو يُمكن أن يُشكّل صدمة معنويّة تمتصّ النقمة الشعبيّة إلى حين، علمًا أنّ أكثر من جهة سياسيّة وحزبيّة والكثير من الفئات الشعبيّة، مُصمّمة على المُضيّ قُدمًا في إعتراضاتهم، مُطالبين بتغيير كامل السُلطة من أعلى الهرم الرئاسي مُرورًا بالسُلطتين التشريعيّة والتنفيذيّة بكامل الأعضاء فيهما.

وبالنسبة إلى الخيارات المُتاحة أمام السُلطة التنفيذيّةالمُحرجة جدًا، فهي كانت-حتى لحظة كتابة هذا المقال، مَحصورةبخيار طرح ورقة الإصلاح التي فرصتها ضئيلة في النجاح في تهدئة الشارع الذي تجاوز بغضبه الكثير من الإنتماءات والتقوقعات السياسيّة والطائفيّة والمذهبيّة السابقة. والورقة الثانية التي قد تكون السُلطة مُضطرّة إلى إستخدامها لتهدئة الشارع، تتمثّل في إستقالة الحُكومة، على الرغم من كل الضُغوط التي يتعرّض لها رئيس الحكومة ​سعد الحريري​ حاليًا لعدم اللجوء إلى هذا الخيار، خاصة بعد كلام أمين "​حزب الله​" الذي وضع–وبلهجة لا تخلو من التهديد المُبطن، أطرًا لسقف التحركات الشعبيّة ولخيارات الحُكومة وللمسؤولين فيها، مُحاولاً قطع الطريق على أي حُكومة تكنوقراط بحجّة أنّها لن تصمد أكثر من أسبوعين! ولا شكّ أنّ فزّاعة الفراغ المُدمّر مُستخدمة من قبل أغلبيّة قوى السُلطة، في مُحاولة للحفاظ على مكاسبها. وبكلّ الأحوال، في حال إستقالة الحُكومة، لن يكون واضحًا إذا كان الشعب سيبقى مُصرّا، والأهمّ قادرًا على الإستمرار بتحرّكه الإعتراضي ضُدّ كل النظام، أمّ أنّ هذه الإستقالة ستنفّس الغضب، وستؤجّل ردّات الفعل إلى مرحلة تالية، ربما عند الإعلان عن شكل الحُكومة المُقبلة، ومعرفة طبيعة تركيبتها وهويّة الشخصيّات فيها.

في الخُلاصة، لبنان في خطر كبير، وتسخيف الإحتجاجات أو تصغيرها، سيُؤدّي إلى نتائج مُدمّرة على الجميع. وبالتأكيد الخُطابات الفوقيّة، وتلك الخاطئة بالشكل وبالمَضمون، وتلك الضعيفة والتي ليست بحجم الأزمة، لن تُسفر إلا عن تفجّرالمزيد من الغضب الشعبي. فهل سيخرج المسؤولون عن صمتهم، ويتخذون مواقف وإجراءات بحجم ما يحصل، بعد أن أشبعوا الناس وُعودًا برّاقة لم يتحقّق منها شيء؟!.