لا يختلف اثنان على ان نزول اللبنانيين الى الشارع على مدى اسبوعين، ترك اثره بشكل واضح على الحياة اللبنانية بكل تفاصيلها، ولكن بالاخص دخل الى افكار السياسيين الذين تهافتوا لتبنّيه واقاموا سباقاً لتبييض صورتهم و"النأي بالنفس" عن غيرهم. لا احد يصدّق ان وجهاً سياسياً واحداً او مسؤولاً واحداً هو المعني فقط ب​الفساد​ واستغلال النفوذ، ولكن في المقابل لا يعني هذا وجود مسؤول او سياسي بات منزّهاً او خارج اطار المسؤولية، ومن بين هؤلاء بالطبع رئيس الحكومة المستقيل ​سعد الحريري​. اليوم، هناك حملة على الحريري، كما غيره من المسؤولين، في ما يمكن تسميته بـ"تصفية الحساب"، الا ان استقالته لا تعفيه من تحمل المسؤولية، فهو كان شريكاً في السلطة منذ العام 2005، بطريقة مباشرة وغير مباشرة. اضافة الى ذلك، فرئيس الحكومة هو الوحيد الذي يتمّ تعيينه او تكليفه، ف​رئيس الجمهورية​ ينتخب من ​مجلس النواب​، على غرار رئيس المجلس النيابي ايضاً، وهذا يعني انّ استقالة رئيس الحكومة لا تعني غيابه عن السلطة اذ يمكن بكل بساطة إعادة تكليفه ليرجع الى مركزه بحلّة جديدة.

من الاكيد ان الحريري بعد استقالته، يرغب في التحوّل الى بطل للشعب، وهو يرتكز الى رغبة محليّة واقليميّة ودوليّة ببقائه في السلطة، ولذلك وضع شروطاً جديدة يعتبر انها كفيلة بتقديم صورة جديدة له، تظهره بمظهر المنقذ للبنان. يتمّ التداول حالياً في معادلة مفادها انّ عودته الى السراي الكبير مقرونة بعدم وجود رئيس التيار الوطني الحرّ ​جبران باسيل​ في الحكومة، والا فلن يكتب لأيّ حكومة -ولو تم تشكيلها- العمر الطويل. هذه المعادلة تأتي كردّ على المعادلة التي كانت قائمة سابقاً من انّه دون باسيل، لن يكون هناك تشكيل اي حكومة، وعليه تكون الامور معقّدة بعض الشيء، الا في حال اعتماد حكومة تكنوقراط بكل ما للكلمة من معنى، وتبقى عقدة من سيتولى رئاستها التي يمكن تذليلها في وقت قصير.

اللافت ان شهر العسل الطويل الذي ساد بين الحريري وباسيل، انتهى بصورة مفاجئة، واصبحا على طرفي نقيض، واعلنا بشكل غير رسمي دفن التسوية الرئاسيّة، ما افسح المجال امام اطراف اخرى للعودة الى ساحة المفاوضات لنسج تحالفات سياسية جديدة. وكما ان الحريري لم يقبل ان يدفع ثمن نزول اللبنانيين الى الشارع، فلن يقبل باسيل ايضاً بهذا الامر، لذلك من الصعب تصوّر حكومة برئاسة الحريري من دون ان تضمّ باسيل او تواجد الاخير في حكومة لا يرأسها الحريري، وبالتالي فإن مصيرهما السياسي حالياً مشترك ولكن الوقت لا يصبّ في صالحهما لإعادة الامور الى مجاريها، وقد يكون التوجه بالتضحية بهما معاً لقيام حكومة جديدة لا تزال قابعة في قاعة الانتظار ليتم الاعلان عنها رسمياً.

وفي حين أنّ الهم الاقتصادي والمعيشي والاصلاحي سيكون الهدف الاساسي للحكومة العتيدة، فإن الهمّ السياسي سيبقى حاضراً، غير انه قد لا يشكّل العقدة الكبيرة حيث يمكن التفاهم على اعتماد النصوص السياسية التي تضمنها ​البيان الوزاري​ السابق في ظل موافقة الغالبيّة الكبرى للاطراف السياسية عليه (وكانت ممثلة في الحكومة). هذا هو سر التحرّكات والاتّصالات التي تحصل حالياً، والتي تهدف للوصول الى سلة اتفاق واحدة تشمل رئيس الحكومة وشكلها وتوزيع الحقائب فيها، على ان يتولّى مجلس النواب سريعاً تأمين الغطاء الدستوري لها.

معضلة جديدة نقف امامها اليوم، وربما تكون الاكثر اهميّة في تاريخ لبنان الحديث، لان آمال الملايين من اللبنانيين معلقة عليها لتنقلهم من حالة الى اخرى، ولتبدأ العمل بالفعل وليس بالقول، على نقل لبنان من مرحلة الركود والهمّ والقلق، الى مرحلة الامل ووضع الركائز الاساسيّة لمشاريع مستقبليّة تعيده الى الطريق القويم.