بعد القرار الذي اتخذه ​الجيش اللبناني​ والقاضي بفتح الطرقات العامة امام المواطنين، وبالتالي انهاء الاعتصامات العشوائيّة، وبعد احترام المتظاهرين هذا القرار وتوجيه تركيزهم على المؤسسات والدوائر الرسمية والمالية، بات هؤلاء "الثوار" امام امتحان جدّي قد يكون الخطوة الاولى الحقيقيّة على طريق اصلاح الامور في لبنان والانتقال به من حال الضبابية والغموض، الى حال التغيير الذي ينشده الجميع.ان وضع هؤلاء اليوم هو على المحكّ، لان من البديهي جداً القول ان كل التغييرات والتحسينات لا يمكن اتمامها خارج الاطر ​الدستور​يّة، والا سادت الفوضى وضاعت المطالب ومعها الاحلام وحصيلة كل ما تم انجازه في الفترة الاخيرة. وتزامناً مع احترام الدستور والقوانين لاجراء المقتضى اللازم على صعيد السلطتين التنفيذية والتشريعية، لا بد من اللجوء الى القضاء فهو المدماك الاساسي في البناء الكفيل بتحقيق المطالب التي تتم المناداة بها. قد يشكو البعض من انّ القضاء لا يقوم بعمله كما يجب، او انه مسيّس...، ولكن هذا يجب ان يشكّل دافعاً لتحسينه وتعزيز عمله وليس لمقاطعته او تخطّيه، والا غرقنا مجدداً في الكلام المنمّق الذي لا طائل منه، وعدنا الى المربّع الاول الذي لطالما اشتكينا منه.

تحدّث رئيس الجمهورية العماد ​ميشال عون​ عن إحالة 17 ملف فساد الى القضاء لاجراء اللازم، وتحدثرئيس مجلس النواب ​نبيه بري​ عن "ورشة تشريعيّة" على صعيد محاسبة المسؤولين عن إهدار المال العام، وهو أمر يتطلب بطبيعة الحال مرجعيّة القضاء، وفي المقابل كان نقل عن رئيس الحكومة السابق ​فؤاد السنيورة​ انه لن يلبّي دعوة المدّعي العام المالي للاستماع اليه في قضية الـ11 مليار دولار، قبل ان يعود عن قراره ويمثل امام القاضي. ربما انطلق السنيورة من قراره هذا، على انه "تشفّيا" سياسياًاو اختياراً مقصوداً للتصويب عليه، ولكن بغض النظر عن السبب، لا يمكن اتّخاذ مثل هذا الموقف لانه يقوّض كل المساعي المبذولة من اجل اصلاح الاوضاع. واذا سلّمنا جدلاً ان ما انطلق منه السنيورة حقيقي، اليس القضاء الجهة الصالحة لاعطائه "صك البراءة" المطلوب؟ وعندها فليتحمّل القضاة مسؤوليّاتهم لجهة الاحكام التي ستصدر عنهم، وما اذا قرروا تبرئة احد او ادانته. فما النفع اذا تحدّث المتّهم او المشتبه به ليلاً نهاراً عن براءته وعدم وجود أيّ شبهة عليه، اذا لم يقرن هذا القول بإثبات للجهات القضائية المعنيّة؟ وما العبرة التي يعطيها الى اللبنانيين وبالاخص منهم "الثوار"، اذا اختار تجاهل القضاء، فمَن الجهة التي ستعيد الاموال المنهوبة الى الخزينة، ومن سيتولّى التحقيق في ملفّات الفساد والهدر، ومن سيبتّ ببراءة او ذنب ايّ مسؤول في هذا الملفّ او ذاك، خصوصاً وانّ الثقة بالمسؤولين باتت شبه مفقودة؟ حسناً فعل السنيورة وبعده الوزير جبران باسيل وقبله مدير عام الجمارك ​بدري ضاهر​ وغيرهمممن سيتمّ استدعاؤهم من الرؤساء والنواب والوزراء السابقين والحاليين والمسؤولين، في اعلانهم انهم تحت سقف القانون ولا يتمرّدون عليه، واذا كان لأحدهم أيّ مأخذ على قاضٍ او مجموعة من القضاة، فليبرزها وليعمد الى استغلال الفرصة السانحة لتوجيه الناس الى المطالبة بتنقية القضاء، ولكن من المهمّ جداًعدم التلطّي وراء حزب او تيّار او طائفة لان هذه اللعبة يتقنها الجميع، وهي بطاقة خلاص مجانيّة كانت صالحة في أيّ زمان ومكان، وهي السبب في الخلل الذي يعيشه البلد منذ عقود من الزمن.

عند الامتحان، يكرم المرء او يهان. هذا القول ينطبق تماماً على حالة المظاهرات التي نشهدها في لبنان، وما نشهده اخيراً هو مقدّمة لما يجب ان يحصل شرط ان تصل الامور الى خواتيمها السعيدة. فهل سيكرّم المتظاهرون انفسهم وجهدهم ومطالبهم واحلامهم، ام انهم سيكتفون بـ"فشّة الخلق" التي قاموا بها دون افق محدد وفرص نجاح تبدو عالية اليوم، وضئيلة جداً غداً؟!.