في اللحظات الحرجة، هناك مَن يخشى أن ينفِّذ «حزب الله» انقلاباً في لبنان، ليبقى ممسكاً بتركيبة السلطة التي يرعاها. لكن البعض يرى أنّ «الحزب» أذكى من أن يرتكب خطأ بهذا الحجم، فيما الباب مفتوح أمامه لتحقيق انتصار، عن طريق انقلاب آخر...

حتى اليوم، لم يعتمد «حزب الله» سوى وسيلة واحدة للتعامل مع «الانتفاضة»: الإسكات والإسقاط. وفيما يرى البعض أنّ هناك «ليونة متدرِّجة» أظهرها الأمين العام لـ«الحزب» السيد حسن نصرالله، في إطلالاته منذ 17 تشرين الأول، يعتقد آخرون أنّها مجرد محاولات لاستيعاب الانتفاضة سياسياً. فـ«الحزب» لم يتقدَّم خطوةً لملاقاة الانتفاضة في نقطةٍ وسطى.

ويقول قريبون من «الحزب»: «كان يمكن أن نتنازل، بل كنا سننزل مع المحتجّين إلى الشارع، كما فعل أنصارنا في اليومين الأولين، لو كانت الاحتجاجات تنحصر بمطالب الإصلاح ومحاربة الفساد. ولكن، كيف نقدّم التنازلات لهذا الحراك إذا كان يُدار خارجياً، وتريده الولايات المتحدة ذراعاً لإضعافنا؟».

بالنسبة إلى «الحزب»، إذا تنازل للمحتجين قيد أنملةٍ، فسيطالبون بالمزيد ثم بالمزيد إلى أن يحققوا هدفهم بانتزاع كل أوراق القوة التي يمتلكها، ويصبح لبنان خارج المحور الإيراني أو في الخط المعادي له.

لذلك، يتفهَّم «الحزب» الجانب الإصلاحي والاجتماعي من الحراك الشعبي. وهو ضمناً يوافق على أنّ التركيبة التي يتشارك معها السلطة فاسدة، وأنّ مظالم الناس في محلِّها، لكنه لا يستطيع الموافقة على إسقاطها بسبب حاجته إليها سياسياً.

وهذا الموقف يُحرج «الحزب» حتى أمام جمهوره. فشعبيته، إجمالاً، هي من الفقراء ومتوسطي الحال، وفيها شريحة فاعلة من الطلاب والعمال الذين يشاركون الانتفاضة نقمتها على الفاسدين وناهبي المال العام، من ذوي السلطة والنفوذ. ولم تعد هناك حاجة إلى التذكير بأنّ «الحزب» عقد صفقة مصلحية عام 2016 بينه وبين القوى السياسية المحلية تقوم على المعادلة الآتية: لي السلاح والنفوذ الأمني عبر الحدود وخارجها وداخلها والقرار في السياسة الخارجية، ولكم ما شئتم من حصص وغنائم.

لذلك، توسَّع طرفا المعادلة خلال السنوات الثلاث المنصرمة في الاستفادة من عملية المقايضة. فلا «الحزب» خاف أن يقوم أركان السلطة بطعنه في الظهر في المسائل الاستراتيجية ولا هم خافوا منه أن يتصدّى لهم في مسائل الفساد. لذلك، لم يتمّ توقيف فاسدٍ واحدٍ خلال العهد… ولا قبله طبعاً!

ويقول البعض: لو مارس «الحزب» في مواجهة الفساد قوة الدينامية التي يمارسها للدفاع عن سلاحه ونفوذه في السياسة الخارجية، لكان أصاب العصفورين بحجر واحد. ولكان اليوم قريباً جداً من الانتفاضة.

وبعبارة أشدّ وضوحاً: لو لاحق «الحزب» المشبوهين بالفساد وكشفهم، كما يلاحق المشبوهين أمنياً ويكشفهم، لما بقي مكانٌ لفاسد واحدٍ في السلطة والإدارة مثلما لم يبقَ مكان لمشبوهٍ واحدٍ أمنياً!

وفي الغالب، يُصنَّف أركان «الحزب» وكوادرُه إجمالاً خارج دائرة الفاسدين والمفسدين في لبنان. وهذه فضيلة لا يجوز إنكارُها لهم. وعندما ترتفع حرارة الاعتراض على بعض الملفات والمناقصات والتنفيعات، على طاولة مجلس الوزراء أو خارجها، غالباً ما يقف «الحزب» مع الأطراف المعترضة، ولو كانت في صفّ الخصوم السياسيين كـ«القوات اللبنانية» والكتائب.

لكن اعتراضات «الحزب» تتوقف عند المسّ بالتركيبة السلطوية الحالية. فـ«لا صوت يعلو فوق صوت الصفقة». وهذا هو مكمن الإحراج الحقيقي لدى «الحزب». ولذلك، ليس بسيطاً أن يوفَّق بالطريقة الفضلى للتعامل مع الانتفاضة الشعبية بلا خسائر، أو بأقل قدرٍ منها، خصوصاً بعدما تيقَّن أن لا مجال لإنهاء هذه الانتفاضة.

عملياً، يمكن أن يقفز «الحزب» أبعد من الانتفاضة في مجال محاربة الفساد. فهو يملك المعلومات كلها، والقدرات كلها. فلا طرف في لبنان أقوى منه، خصوصاً إذا كان على حقّ.

فما الذي يمنعه اليوم من المبادرة فوراً إلى كشف ملفات الفساد كلها ومتابعتها بقوة، أياً يكن أبطالها من شركاء في السلطة الحالية، والمسارعة إلى فرض التشريعات الحقيقية التي تؤدي - فعلياً لا صُوَرياً - إلى المراقبة والمحاسبة واستعادة المال المنهوب منذ سنوات طويلة؟ ولماذا لا يكشف محاولات التمييع والمخادعة التي يفتعلها عدد من شركائه في هذا المجال؟

إذا قام «الحزب» بذلك، فإنّه سيلتقي عملياً مع الانتفاضة في شقّ الفساد عل الأقل. وسيكون «الحزب» قادراً على التخلّص من اتهامين: السكوت عن التهريب من خلال المعابر غير الشرعية والتهرُّب الجمركي.

لكن مشكلة «الحزب» الحقيقية ليست في ملف الفساد، بل في مخاوفه من استهدافه السياسي كأحد ألوية إيران على خريطة الشرق الأوسط. فعليه تقع المسؤولية لإبقاء نفوذ إيران ممتداً عبر بغداد ودمشق إلى شاطئ المتوسط. وواقعياً، هذه مهمّة لا يمكنه بأي شكلٍ أن يتخلّى عنها.

وهنا يمكن السؤال: هل اللبنانيون قادرون بأنفسهم على حسم هذه المسألة التي تشكّل جزءاً من الصراع الإقليمي، وتحديداً هي اليوم جزء من الصراع الأميركي- الإيراني؟ وماذا يستطيعون أن يفعلوا إذا كان هذا الصراع سينتهي، كما هو مرجح، بصفقةٍ على مستوى الشرق الأوسط ككل، ونتيجة مساومات كبرى لا يشارك فيها أي طرف لبناني بالتأكيد؟

وبمعزل عمّا إذا كان صحيحاً أنّ الانتفاضة هي أداة أميركية لاضعاف نفوذ «الحزب» في لبنان أو غير صحيح، فإنّ الثابتة التي لا يمكن إنكارها هي أنّ «الحزب»- بوصفه أقوى أجنحة إيران- هو الذريعة التي يستخدمها الأميركيون لتبرير دخولهم على الخط في لبنان.

ولذلك، ثمة مَن يقول: إذا وقف «حزب الله» مع المنتفضين بصلابة وحزمٍ، وساهم معهم في سحب الغطاء عن الفساد والفاسدين وتحرّك جدياً وعملانياً لتسهيل محاسبتهم واسترجاع الأموال المنهوبة، فإنّ الانتفاضة ستجد فيه داعماً حقيقياً. وفي هذه الحال، ستكون الانتفاضة ضمانة نظيفة بديلة من الضمانة الحالية الفاسدة. وهي ضمانة تحظى بالمشروعية الداخلية والشرعية الخارجية. وبها يمكن بناء السلطة من جديد، بعد مرحلة انتقالية.

هذا يستدعي خطوة جريئة، بل صدمة قد لا تكون في حسبان الكثيرين. والكثير من المعنيين، في الانتفاضة و«الحزب»، يعتقدون أنّ هذا السيناريو غير قابل للتحقّق.

لكن ميزة «الحزب» أنّه لطالما درس حساباته بدقّة وتصرَّف براغماتياً. فعندما تُفرَض على المقاتل معركة صعبة، تقتضي الحكمة أن يخرج منها بأقل الخسائر. فهل يجرؤ «الحزب» ويبادر إلى انقلابٍ يفاجئ الحلفاء قبل الخصوم؟