لم يكن مستغرباً موقف رئيس المجلس النيابي ​نبيه بري​ إزاء الحراك الشعبي. هو أول سياسي تعاطى عملياً بإيجابيّة مع حراك "حقيقي".

كان يعتقد بعض ناشطي الحراك أن بري "يخدعهم" أو "يلتفّ على المطالب التي رُفعت في الشارع"، لكن تدريجياً تظهّر المشهد بعد أن اطلق رئيس المجلس اول دعوة لإشراك "الحراك الحقيقي" في الحكومة. ثم مضى في مشواره التشريعي يُترجم الإلتزام بتنفيذالمطالب الشعبيّة، مستنداً إلى قناعات سياسية يؤمن بها بري اساساً، وخصوصا بشأن قانون الإنتخابات النيابية، عدا عن طرح الدولة المدنية، عبر الغاء الطائفية السياسية: هل نسي اللبنانيون عدد المرّات التي طالب خلالها بري بتشكيل الهيئة الوطنية لدراسة السبل الآيلة لإلغاء الطائفية السياسية؟ وكيف كانت المجابهات السياسية تسدّ الطريق على مشروع تتبنّاه حركة "أمل" منذ التأسيس؟ وايضاً كيف حضّرت كتلة "​التنمية والتحرير​" مشروع قانون إنتخابي يقوم على أساس لبنان دائرة واحدة وفق النسبية؟ حصل الأمران قبل ان يخرج اي صوت شعبي علني او يتحرّك المحتجّون في ​شوارع بيروت​ والمناطق، وقبل ان تتبنّى القوى السياسية اي مشروع مشابه.

اذا استحضرنا موضوع ​مكافحة الفساد​، فهناك سبيلان لتحقيق الهدف بعيدا عن الشعارات: إمّا بالمحاسبة القضائيّة الفوريّة، عبر قوانين يشرّعها المجلس النيابي، وإمّا بترسيخ دولة المحاسبة عبر نسف الطائفيّة التي تحمي الفاسدين وتمنع مقاضاتهم. في الحالتين سارع بري لفرض المعادلتين. ومن هنا جاءت بنود ​الجلسة التشريعية​ التي وضع مكتب المجلس-نتيجة إصرار بري- على جدول أعمالها ١٦ مرسوما وإقتراح قانون تبدأ بمكافحة الفساد، الى الجرائم المالية ومواضيع الضمان الإجتماعي وغيرها من إقتراحات قوانين.

ثم جاء في ذات السياق مشروع قانون معجّل مكرّر طرحته كتلتا "التنمية والتحرير" و"الوفاء للمقاومة" وقّعه النائبان ​هاني قبيسي​ و​حسن فضل الله​، بشأن رفع الحصانة عن كل الوزراء الذين حلّوا في الحكومات بدءا من عام ١٩٩٢، مما يعني الجدية في المحاسبة، في وقت التزم بري برفع السريّة المصرفيّة مع النواب أعضاء كتلته التي يرئسها.

كل ذلك يشكّل الأرضية الصالحة للإصلاح، وهي عناوين نادى بها الحراك الشعبي. ومن هنا تداول نخبويّون فيه بفكرة الحوار مع رئيس المجلس لتنفيذ الأجندة الاصلاحية المشتركة، ورُصدت محاولات من قبل شخصيات مصنفّة في خانة قيادات الحراك للتواصل مع بري بصفته ضامناً لإستمرار عمل المؤسسات ومانعاً للفراغ، وحكيماً سياسياً يؤمن بإصلاح النظام السياسي للتوجه الى الدولة المدنية.

لكن، قد ترتفع أصوات من قبل مجموعات "تخوّن" كلّ من يتواصل مع مسؤول سياسي، وهو ما يأخذه النخبويون "غير المرتبطين" بأجندات حزبية أو خارجية بالإعتبار، للردّ بالتفصيل على كل رفض او إتهام، بعدما علموا بوجود اتصالات سرّية بين عدد من قيادات الحراك وقوى سياسية وأجهزة أمنية.

ومن هنا يصرّ عدد من النخبويين على التواصل مع برّي وعدم الإنجراف خلف الشعارات العشوائيّة: ألم يطرح رئيس المجلس النيابي تأسيس الدولة المدنيّة؟ ألم يقدم مشروع قانون إنتخابات وطني على أساس لبنان دائرة واحدة؟ ألم يرفع السريّة المصرفية عن نفسه وزوجته واعضاء كتلته النيابية؟ الم يطالب القضاء بمحاسبة اي مسؤول محسوب عليه متهم بأيّ ملف؟ ألم يدعُ الى إشراك الحراك بالحكومة؟ ماذا نريد بعد؟ واذا كانت مجموعات سوّقت لفكرة "كلن يعني كلن"، فكيف يمكن تطبيقها في بلد كلبنان؟ جرّب هؤلاء فرض هذا الشعار، فما هي النتائج؟ الا اذا كان الفراغ الشامل الكامل هو المطلوب لضرب ركائز الدولة وبالتالي احداث الفوضى المفتوحة. يرفض هؤلاء الفراغ والفوضى والعشوائية والإرتجالية والإنجراف وراء العواطف على حساب المنطق والعقل والمصلحة الوطنية. الصورة باتت تتوضّح بعد مرور شهر على ولادة الحراك الشعبي.

لذلك، يشكّل الإنفتاح المتبادل بين رئيس المجلس والحراك ضمانة وطنيّة، في وقت تزداد فيه تداعيات الأزمات السياسيّة والإقتصاديّة والماليّة، وربما الأمنيّة لاحقا في حال تدحرجت كرات تلك الازمات. الاّ إذا كان المطلوب قتل لبنان لا تحقيق الإصلاح فيه. وهي معادلة مقلقة لا تعكس رغبات "الحراك الحقيقي" بل تصحّ في حال تسلّقت مشاريع فوضويّة داخليّة او خارجيّة على ظهر "الثورة".