قبيل انطلاق الحراك الشعبيّ، لم تكن علاقة رئيس "​الحزب التقدمي الاشتراكي​" ​وليد جنبلاط​ مع العهد و​رئيس الجمهورية​ ​ميشال عون​ في أحسن أحوالها، على رغم "المصالحة" التي جمعت الرجلين، وطوت نظرياً وربما افتراضياً صفحة حادثة ​قبرشمون​ الشهيرة.

أكثر من ذلك، يحلو للكثير من "الاشتراكيّين" القول إنّهم "استشرفوا" الانتفاضة الشعبيّة الآتية، وكانوا المبادرين إلى التحرك قبلها بأيام، احتجاجاً على ما وصفوه بقمع الحريات، قبل أن ينخرطوا، وجدانياً، في قلب حراكٍ عبّر في مكانٍ ما عن معاناتهم كجزءٍ من الشعب اللبنانيّ.

اتُهِم جنبلاط بمحاولة "تسلّق" الاحتجاجات لتحقيق أهداف ومآرب سياسية خاصة، بعدما وجد في "الحراك" فرصةً لاستعادة هيبةٍ فقدها على امتداد سنوات العهد الثلاث الماضية، وتحديداً بعيد الانتخابات النيابية الأخيرة، حين خسر موقعه المفضّل كـ "بيضة قبّان" في التركيبة السياسية الداخلية.

ولكن، بعد أكثر من شهرٍ على انطلاقة "الحراك"، هل يمكن القول إنّ جنبلاط حقّق شيئاً من أهدافه المُعلَنة وغير المُعلَنة؟ ولماذا يعتبر البعض أنّه بخلاف ما يروَّج، يتصدّر قائمة الخاسرين على الأرض؟!

غير مرحَّب به؟!

منذ اللحظة الأولى لانطلاقة "الحراك"، كان واضحاً سعي "الحزب التقدمي الاشتراكي"، شأنه شأن معظم أحزاب السلطة، إلى ركوب موجته بشكلٍ أو بآخر، معتقداً أنّه سيكون فرصته "المثاليّة" لتصفية الحسابات مع العهد، وخصوصاً مع الوزير ​جبران باسيل​، الذي كرّر "البيك" أكثر من مرّة ضرورة أن يقوم أيّ حلٍ على استبعاده بالمُطلَق من الحكومة.

ومع أنّ جنبلاط لم يتردّد في إعلان "مساندته" للحراك ولمطالبه، وفق قراءته الخاصة لها على الأرجح، إلا أنّه تردّد كثيراً في اتخاذ أيّ موقفٍ عمليّ كان يمكن أن يقلب الأمور لصالحه، ربما لعدم قدرته على استيعاب حجم الغضب الشعبيّ، والمدى الذي يمكن أن تصل إليه التطورات، خصوصاً في ظلّ اقتناع كثيرين في السلطة يومها بأنّ ما يحصل مجرّد "موجة" ستنتهي في غضون أيامٍ قليلة.

بنتيجة هذه القراءة، لم "يجرؤ" جنبلاط على أن يحذو حذو "شريكه" رئيس حزب "القوات اللبنانية" ​سمير جعجع​ مثلاً، عبر الاستقالة من الحكومة، بشكلٍ فرديّ، وهو ما كان يفترض أن يكون ترجمة طبيعية وبديهية للمواقف التي أطلقها، بل اكتفى بربط موقفه بموقف رئيس الحكومة ​سعد الحريري​. روّج "الاشتراكي" يومها بأنّه يحرّض الأخير على الاستقالة، إلا أنه لن يخطو خطوة بمعزَلٍ عنه، ما أوحى لكثيرين وكأنّ "البيك" يريد أن يحفظ موقعه على كلّ الجبهات، فهو مع الحراك قلباً وقالباً، كما يقول، ولكنّه يرفض الخروج من الحكومة، خشية الندم في حال نجحت في الصمود.

وإذا كانت هذه الصفحة قد طويت، وإن كانت ترسّباتها لا تزال حاضرة، فإنّ موقع "البيك" بالنسبة إلى جزءٍ كبيرٍ من "الحراك"، لم يتغيّر. صحيح أنّ بعض الحوادث "الفردية" أظهرت الرجل وكأنّه من "غير المغضوب عليهم"، وهو ما عزّزته حادثة "السلفي" الشهيرة التي أصرّ أحد المتظاهرين على التقاطها مع الرجل توازياً مع فتح الطريق له، إلا أنّ شعار "كلن يعني كلن" الذي لا يزال يصدح في الساحات حتى اليوم، يستهدف جنبلاط قبل غيره، كونه كان من "الثوابت" الحكوميّة منذ الطائف، وبالتالي يتحمّل مسؤولية كبرى في وصول الأوضاع إلى ما وصلت إليه، مهما كابر المكابرون أو عاند المعاندون.

مزيد من "التهميش"؟!

بعد شهرٍ على الاحتجاجات، لا يمكن القول إنّ جنبلاط نجح في حجز مكانٍ له في قلب "الحراك" الذي ارتأى مساندته منذ اللحظة الأولى، على رغم ما يُحكى عن تغلغل مجموعات حزبية "اشتراكية" في قلبه، لأنّ الرجل يبقى أحد "رموز" السلطة السياسية، وهو لا يندرج حتى في خانة من تعاقبوا على الحكم، بل من استأثروا به طيلة عقودٍ من الزمن.

بيد أنّ هذه "الخسارة"، وإن كانت متوقّعة، تبدو "هامشيّة" بالمقارنة مع الخسائر التي اصطدم بها "البيك" في السياسة، مع الحلفاء والشركاء السابقين. ولعلّ الخسارة الأكبر على هذا الصعيد، تتمثّل في أنّ "البيك" الذي أراد من "الحراك"، أن يعوّض عليه "التهميش" الذي عانى منه خلال الأعوام الثلاثة الماضية، بات اليوم معرّضاً للمزيد من "التهميش".

يكفي للدلالة على ذلك الإشارة إلى المشاورات الجانبية الحاصلة اليوم حول شكل وهيكليّة الحكومة المقبلة، والتي تتركّز بين كل من "​التيار الوطني الحر​" و"​تيار المستقبل​" و"​حزب الله​" و"​حركة أمل​". وفي هذا السياق، لا يخفي "الاشتراكي" استياءه، وإن كان يرفض طبيعة هذه المشاورات من الأصل، باعتبارها تتنافى برأيه مع الدستور الذي يفرض الذهاب إلى استشارات نيابية ملزمة لتسمية رئيس الحكومة.

وإذا كان هناك من يقول إنّ استياء "الاشتراكي" تضاعف لدى سماعه بـ"التسوية" على اختيار الوزير السابق ​محمد الصفدي​ لرئاسة الحكومة عبر الإعلام، لا عبر قنوات التواصل، فإنّ هناك داخل "الاشتراكي" من يلومون رئيس الحكومة سعد الحريري على تغييب الحزب عن مركز القرار، ويقولون إنّ جنبلاط حرص على "مراعاة" الأخير، وعدم الاستقالة بمعزلٍ عنه، إلا أنّه لم يجد في المقابل الحرص نفسه من قبل الحريري، أقلّه على الحيثية التمثيلية التي يتمتع بها "الاشتراكي".

أما الطامة الأكبر في كلّ ما حصل، فتُرصَد على خط العلاقة مع رئيس مجلس النواب ​نبيه بري​، وهي العلاقة التي حافظت على متانتها في عزّ الصراع، سواء في الماضي البعيد عند انفجار الخلاف في البلاد بين معسكرين متناقضين سُمّيا بـ"٨ و١٤ آذار"، أو في الماضي القريب في عزّ القطيعة مع "حزب الله". وفي هذا السياق، ثمّة من يقول إنّ بري لا يبدو متفهّماً لموقف جنبلاط من الجلسة التشريعية، خصوصاً أنّه كان قد تلقى منه تعهّداً بالمشاركة، فإذا بـ"الاشتراكيين" ينقلبون عليه في اللحظة الأخيرة، ولو بعنوان "عدم الحماسة"، لا "المقاطعة".

المراجعة المطلوبة...

لا شكّ أنّ الحديث عن "ربح صافٍ" أو "خسائر مضاعفة" جراء الحراك الشعبي، لا يزال سابقاً لأوانه، باعتبار أنّ أحداً لا يستطيع أن يتكهّن منذ الآن بمسار الأحداث، وما يمكن أن يحصل في الأيام القليلة المقبلة.

مع ذلك، يعتقد كثيرون أنّ موقف جنبلاط، أقلّه حتى الآن، قد يكون من الأضعف، فهو يبقى افتراضياً "هدفاً" أساسيّاً للمتظاهرين على طبقةٍ سياسيّةٍ يكاد جنبلاط يختصرها بنفسه، وسيكون في الوقت نفسه "هدفاً" أساسياّ لحلفائه السابقين، ممّن سيعتبرون أنّه "طعنهم في الظهر" عند أول استحقاق.

إزاء ذلك، قد يكون مطلوباً من جنبلاط إجراء مراجعة ذاتيّة للمسار بكامله، مراجعة لا شكّ باتت مطلوبة من جميع القوى، سواء في السلطة أو المعارضة أو حتى في الحراك، لأنّ إنقاذ الوطن بات أكثر من ضروريّ...