غاضبون، قلقون، يائسون، تلك هي حالة اللبنانيين المنتشرين في اميركا. يسألون عن مستقبل وطن الأجداد وعن جنى العمر الذي حوّلوه في السنوات الماضية اليه، كذخيرة لأيام التقاعد. لا تختلف الصورة كثيراً في لبنان عمّا حدث في فنزويلا في السنوات الماضية، فالمغتربون في اميركا اللاتينية حذّروا مراراً من ان الآتي للبنان لن يختلف عن الذي حصل لهم في فنزويلا. سيناريو واحد لبلدين كانا على قائمة الدول المتقدّمة والغنيّة، فأصبحا خبراً لأناس يبحثون عن الرغيف بسبب سياسات مصرفية خاطئة وفساد وسرقات استفاد منها حكّامهم والباقي تعرفونه

باعت النساء مجوهراتها في فنزويلا، سياراتها، من أجل ان تحصل على طحين ذرة تصنع منه "الأريبا"(1)، هكذا روى المراقبون في ​الأمم المتحدة​ الحالة التي وصلت اليها فنزويلا، ونبّهوا الى أن لبنان سوف يشهد مثلها اذا لم تسارع السلطة الى تشكيل حكومة ذات مصداقية، تستطيع جلب ما لا يقلّ عن ٨ مليار دولار كي تعود الحياة الى شرايين ​الإقتصاد اللبناني​.

في قنصلية لبنان العامة في نيويورك، توافد اللبنانيون لإلقاء تحيّة شكر للقنصل العام مجدي رمضان، الذي خدم الجالية اللبنانية بإخلاص وتفان لمدة سبع سنوات. القنصلية جمعت اللبنانيين وجمعهم الحزن على بلدهم. كانت الأحاديث كلها حول اخبار "​الثورة​". ربما كانت المرة الأولى التي يتكلم فيها ابناء الجالية لغة واحدة. مشهد فريد طالما انتظره اللبنانيون، المسلم يتكلم مع الماروني، الأورثوذكسي مع الدرزي يجمعهم القلق والخوف على لبنان. ثورة وغضب، هذه كانت خلاصة الأحاديث التي سمعناها في ذلك الحفل.

قال رجل أعمال مغترب، رفض الإفصاح عن اسمه، ان الحلّ صعب، كما ان النظام الحالي لا يستطيع تنفيذ أي حلّ في ظلّ التركيبة الطائفيّة في لبنان. صديقه مدير شركة هندسية أضاف ان لبنان يمرّ بأقسى أزمة عالميّة وقد أصبح على شفير الإنهيار الإقتصادي والإجتماعي والسياسي، وأضاف: إذا ما رجّعنا المنهوب فإن الإنهيار حتمي، ستصبح ليرتنا لا شيء. تماماً كما حصل في فنزويلا. وعندها سنشهد أحداثاً لم يسبق أن عاشها اللبناني في حياته.

من بين الحاضرين، جامعيّون ومصرفيّون يعملون في نيويورك منذ عقود، أكدوا لـ"النشرة" ان التعويل على المغترب وعلى التحويلات المالية من الخارج حالة كانت في الماضي، عندما كان اللبنانيون يرسلون المساعدات لأهاليهم. لقد تغيّر ذلك الزمان، فاللبناني الذي يعيش اليوم في اميركا أو في أيّ قارة في العالم، يعيش أزمة اقتصاديّة بشكل مختلف. ف​أميركا​ وافريقيا اللتان تُعتبرا أرض الفرص، اليوم أصبحتا للمهاجر أرضاً لكسب العيش بالكدّ والتعب وليس للثراء. من الأكيد أن اللبنانيين كانوا على مرّ التاريخ سفينة النجاة في معظم الأزمات، لا يتوانوا عن الوقوف الى جانب أهلهم، ولكن هذا لا يعني أن هذه المحاولة ستخلّص البلاد من الكارثة، لأن المسألة هي دين فاق المئة مليار دولار، رقم ضخم لبلد صغير بحجم لبنان.

من جهته، أسف مغترب مصرفي كبير، من خسارة لبنان لقب "قجّة الشرق الأوسط"، ومن أداء رؤساء الحكومات السابقة في لبنان الذين غشّوا الشعب وأخفوا الحقيقة عنه. اليوم، ينهار البلد، والشعب بدون مظلّة، لا سياسية ولا اقتصادية. وتابع: في الماضي القريب، لقد خسر لبنان مرّتين، تمّت سرقة ​الشعب اللبناني​ بأسره مرتين. في الثمانينات، تلاعب أحد ​المصارف​ -امتلكه سياسيون- وضاربوا على الليرة، وخفضوا قيمتها الى واحد في الألف، وخسر يومها كل المودعين في لبنان، وكان بينهم فلسطينيون وسوريون وخليجيون وأردنيون.

في المرة الثانية، دُعي اللبنانيون بعد الطائف الى ضخّ اموالهم في لبنان، فأرسلوا حوالي ٤٠٠ مليار دولار، امتلأت المصارف بمليارات استُثمرت في سندات الخزينة، وامتلأت جيوب المودعين. وفوق كل ذلك، استدانت الحكومة المليارات بإسم الشعب اللبناني ولم يقدموا له خدمات مقابلها او مشاريع تنموية تعود على البلد بالفائدة. وكانت النتيجة ان نظام الفوائد العالية مع تثبيت سعر صرف النقد، يعني إفلاس البلد بصفة شرعية وأصبح مرتهنا للدائنين، باختصار، لا ثقة للبناني المغترب بالسياسيين بعد اليوم، لقد لُدغ المغترب أكثر من مرة، والمؤمن قد استفاق اليوم.

على مدى السنتين الماضيتين، أرسل ​صندوق النقد الدولي​ الى حكومات لبنان إنذارات تثير القلق حول الآداء المصرفي، ودعاهم الى أخذ الحيطة القصوى ومراجعة الأداء النقدي. لم يكترث أحداً بما قاله، هكذا اكد أحد الخبراء في هذه المؤسسة العالمية.

والى خبير مصرفي كبير آخر في نيويورك، انتقلت "النشرة" تسأل عن كيفية الخروج من الأزمة قبل ان تتحوّل الى مأساة يروي التاريخ عن فصولها. فلفت الى ان لبنان يمرّ بأصعب ظرف ليس لدولته انما في العالم، ان السياسات النقدية الخاطئة التي بدأت منذ ٣٠ عاماً، أوصلت لبنان الى ما هو عليه اليوم. رفعت الحكومات الدين العام، خلال هذه الفترة وخفضت القطاعات الإنتاجية، التي انعدمت مع الوقت، ولم يبقَ منها الا الخدمات والسياحة، إضافة الى سرقة مشرّعة تحت غطاء وزير ومسؤول.

وأضاف... لم أرَ في حياتي دولة تضع الضرائب على كاهل مواطنيها، وتستثني الكماليات مثل اليخوت، والأملاك البحريّة المسروقة من حقّ وفرح اللبنانيين. هناك حلول سريعة يجب أن تتّخذ لمنع الأنهيار الكامل، مثل ضخّ بضعة مليارات سريعاً وبدون تأخير في خزينة الدولة المفلسة. ويجب ان تباشر الحكومة المقبلة بتفعيل الصناعة والزراعة، كذلك يجب استعادة ولو نصف المال المنهوب، الذي باستطاعته اقفال العجز، وذلك عبر سلطة قضائيّة مستقلّة. فإذا استطعنا استرداد نصفه، نكون قد قطعنا دائرة الخطر. كذلك يجب على الدولة ان تباشر في حلّ مسألة النفايات عن طريق إنشاء المطامر، لأنه لا يجوز ان نسمع بعد اليوم بأن لبنان يحتل المركز الأول في آسيا بنسبة المصابين بمرض السرطان. لا أقدر ان أسمع كمغترب ان نهر الليطاني، الذي هو رمز من رموز لبنان، تعوم فيه أكوام القُمامة. هذا غير مقبول لا أنسانياً ولا بيئياً، ان ما نشاهده هو عار على دولتنا.

وقال مصرفي آخر يعمل في صندوق النقد الدولي، "لا لزوم للهندسات المالية بعد اليوم. وعلى ​مصرف لبنان​ ان يعطي فائدة ٣% للمودع، أسوة بكل مصارف العالم، ان العشرين% التي أعطتها البنوك كفائدة هي التي اوصلت لبنان الى حالة الإنهيار. وعلى الدولة اللبنانية ان تفرض ضرائب على البنوك، التي استفادت في الماضي وجنت الكثير من الأرباح.

وختم أحد المسثمرين الكبار في ولاية واشنطن آخر الحديث الذي جمع عدد من الإقتصاديين قائلاً: ان قطاع النفط هو حبل نجاة لبنان اليوم. فالشعب اللبناني هو المالك الوحيد للنفط وليس لأشخاص مهما علا شأنهم.