أَسوأُ ما في الورقة الإِنقاذيَّة الَّتي شهرها رئيس ​الحكومة​ المُستقيلة ​سعد الحريري​، قرار "إِلغاء" وزارة الإِعلام، مِن دون التَّصريح في الخُطوة التَّالية.

هل الخُطوة التَّالية بعد "الإِلغاء" تكون في التَّأْسيس لنوعٍ من الشَّراكة بين القطاعين العامّ والخاصّ، تنسحب إِلى شركة "تلفزيون ​لبنان​"، على كلٍّ من "الوكالة الوطنيَّة للإِعلام" و"إِذاعة لبنان"؟ وفي هذه الحال ماذا يُميِّز إِذَّاك وسائل الإِعلام الرَّسميَّة عن الخاصَّة الَّتي تبغي الرِّبح وتلهث وراء الإِعلان، ما يجعلها أَسيرةً له؟...

أَو هل يكون التَّالي مُجرَّد إِحالة مُوظَّفي "وزارة الإِعلام" إِلى وزاراتٍ أُخرى، وفي هذه الحال يُسجَّل على الحُكومة المُستقيلة، هربًا آخر إِلى الأَمام، وتنصُّلاً إِضافيًّا من تحمُّل مسؤوليَّاتها، في تقديم خدمةٍ إِعلاميَّةٍ ترسم الحقيقة كما هي، من دون مُواربة ولا تجييشٍ للشَّارع، ولا تحريض لا يخدم إِلاَّ الأَجندات الخارجيَّة...

لقد اختلف الأَمر كثيرًا بالنِّسبة إِلى الإِعلام، منذ العام 1982 ولغاية اليوم، في نهاية العام 2019. فجيلُنا يذكر تمامًا كيف التقى الرَّئيس المُنتخب بشير الجميِّل أُسرة الإِعلام الرَّسميِّ، بعيد انتخابه، وطلب إِليهم "أَن يقولوا الحقيقة مهما كانت صعبة"، مُظهرًا بذلك أَهميَّة الإِعلام الرَّسميِّ القادر على نقل الصُّورة من دون غاياتٍ سياسيَّةٍ أَو مآرب ذاتيَّةٍ... كما وأَعاد الرَّئيس المُنتَخَب النَّظر في إِطلاق التِّلفزيون النَّاطق باسم "القُوَّات اللُّبنانيَّة"، كيلا يُقال إِنَّ رأس الحكم لا يُؤْمن بالإِعلام الرَّسميِّ، وإِنَّ "القوَّات" الَّتي كان الرَّئيس بشير الجميِّل قائدًا لها، بات لها شاشة "في مقابل" شاشة "​تلفزيون لبنان​". لكنَّ الأُمور اليوم انقلبت رأْسًا على عقب... وقد باتت للسِّياسيِّين وسائل إِعلامٍ ناطقةٍ بسياستهم، على حساب الخطاب الرَّسميِّ المُتَّزن!. وإِذا كانت الأَوضاع في الـ82 أَفضل بأَشواطٍ ممَّا هي عليه اليوم، فإِنَّنا الآن أَكثر حاجةً إِلى إِعلامٍ رسميٍّ وازنٍ... وإِلاَّ فهل المطلوب الآن، إِطلاق العنان لبعض الأَبواق الإِعلاميَّة كي تمضي قُدمًا في "تَأْجيج الشَّارع"؟.

لقد ثبُت للسِّياسيِّين أَنَّ وسائل إِعلامهم باتت عبئًا عليهم، وكان الأَجدر بهم –حتَّى على الصَّعيد الشَّخصيِّ– أَن يُعزِّزوا الإِعلام الرَّسميَّ بدلاً من "إِلغائه"... فلو تدارك المسؤولون عندنا، أَهميَّة تعزيز الإِعلام الرَّسميِّ، لكانوا تجنَّبوا مثلاً اندلاع ​احتجاجات​ اللُّبنانيِّين، وفي وقتٍ مُتزامنٍ، في الكثير عواصم الدُّول في ​العالم​، على خلفيَّة "التَّجييش الإِعلاميِّ" الَّذي وقع ضحيَّته المُغتربون، في ساعة "تخلٍّ"، وقد سقطوا لبُرهةٍ في فخِّ "كلُّن يعني كلُّن"، و"فليسقُط النِّظام"!...

هل بتنا في عداد الدُّول المُتطوِّرة، الَّتي لا حاجة لها إِلى "وزارة إِعلامٍ"، إِذ إِنَّ الجميع فيها يُدركون حُقوقهم وواجباتهم، ويركنون إِلى دولة القانون والمُؤسَّسات، ويُحسنون التَّمييز بين "الحركة المطلبيَّة" و"الثَّورة" و"العصيان المدنيِّ"، ولا يخلطون "شعبان بِرمضان" في هذا المجال!...

قد يكون المخرج الأَنسب لتصحيح خطيئة "إِلغاء وزارة الإِعلام"، إِلحاق "الوكالة الوطنيَّة للإعلام" و"الإِذاعة اللُّبنانيَّة" بوزارة الثَّقافة، ونقل موظَّفي الأَخيرة البالغ عددهم حوالي الخمسين، إِلى مبنى وزارة الإِعلام المملوك من الدَّولة، خلافًا لمقرِّ وزارة الثَّقافة المشغول بمُوجب الإِيجار. وعليه فحتَّى في هذا المجال، لم تُوفِّر خُطوة الحُكومة المُستقيلة على خزينة الدَّولة فلسًا واحدًا، إِذ إِنَّ المُوظَّفين سيُنقَلون إِلى وزارةٍ أُخرى بعد إِلغاء وزارتهم بشطبة قلمٍ حكوميَّةٍ، وضَعت حدًّا لمَن تفانَوا لعشرات السَّنوات في عملهم الإِعلاميِّ الوطنيِّ بامتيازٍ.

كما وقد تُتَّصف الخُطوة الحُكوميَّة بأَنَّها أَتت في سياق "التَّذاكي" على الحراك الشَّعبيِّ الرَّافع لواء مُحاربة ​الفساد​ في البلاد. فلو كانت الحُكومة عازمةً على المضيِّ فعلاً بالإِصلاح، لاختارت أَنْ تبدأَ بإِلغاء المجالس الرَّديفة للوزارات، والَّتي تُكبِّد الخزينة الأَموال الطَّائلة، فهناك الإِهدار والصَّفقات المشبوهة والسَّمسرات المفضوحة، وكلُّ أَلوان الفساد القاتمةِلا بل الشَّديدةِالسَّواد!.

إِنَّ الأَحداث الأَخيرة والتَّطوُّرات الدراماتيكيَّة تُثبت أَنَّ السَّاحات يُؤجِّجها الإِعلام، وأَنَّ النَّقل المُباشر يُغذِّي الخطاب المُتفلِّت من أَيِّ مسؤوليَّة، لا بل إِنَّ بعض الزُّملاء الإِعلاميِّين يستفزُّ بأَسئِلته النَّاس، بهدف المُبالغة في التَّعبير عن الرَّأي، وصولاً إِلى التَّطاول على الرِّئاسات والمَقامات، إِيذانًا بانفلات "الملقِّ" الَّذي لا تُحمد عُقباه... كما ويحضُّ بعض الإِعلام الخاصِّ المُواطنين، على التَّوجُّه إِلى ساحات التَّظاهر...

والأَحداث الأَخيرة ينبغي أَن تجعل المسؤولين، من رأْس الهرم إِلى أَسفله، يُعيدون النَّظر في طريقة تعاطيهم مع الإِعلام الرَّسميِّ، وحتَّى إِنَّهم في حاجةٍ إِلى القيام بعمليَّة تحديثٍ (Update) لمكاتبهم الإِعلاميَّة، وإِلى أَنْ يُجروا التَّغيير اللازم في طواقم المسؤولين الإِعلاميِّين عندهُم، علَّهم يُوَفَّقون في مَن يُرمِّم صورتهم المُترسِّخة في الذَّاكرة الشَّعبيَّة... والأَهمُّ أَنْ يستمعوا بصدقٍ إِلى نبض الشَّارع، ويُسلِّموا أَنَّ القرار الشَّعبيَّ بمُكافحة الفساد حاسمٌ وحازمٌ.

وفي المقابل، على الحراك الشَّعبيِّ أَن يعرف ماذا يريد ويتفكَّر في سُبل تحقيق الأَهداف، بعيدًا مِن إِيذاء النَّاس في عملهم وتنقُّلاتهم وحاجتهم إِلى سحب قرشهم الأَبيض من المصرف، في يومهم الأَسود!.