بواقعية وصراحة نقول إنّ ​لبنان​ بات جزءاً من مجموعة ​الدول العربية​ التي تعصف بها الريح السموم التي تهبّ في سياق الحريق العربي الذي شبّت ناره منذ بداية العقد الحالي. وعاد لبنان ليشكل في أحداثه الداخلية ملفاً لدى ​مجلس الأمن​ يُضاف الى ملفاته السابقة المتصلة بالصراع مع العدو الصهيوني. نعم أصبح لبنان ​الدولة​ العربية التاسعة التي تنهشها الاضطرابات الداخلية.

ومع هذا نجد للحالة اللبنانية خصوصية وفرادة لم تتوفر في أيّ من الدول العربية السابقة وتعود هذه الخصوصية الى أمرين: الأول سياسي ​دستور​ي يتمثل بوجود نظام سياسي لبناني يستند الى دستور مكتوب يعتمد نظرياً الديمقراطية البرلمانية وفصل السلطات، وأشدّد على القول نظرياً. والثاني امتلاكه قوة ميدانية فاعلة وقادرة على مواجهة أيّ خطر خارجي تمثله ​إسرائيل​ ، قوة تملك من المؤهّلات ما يجعلها قادرة على التصدّي للفوضى الداخلية ومنعها من الانتشار وأقلّه الحؤول دون اقتحام الفوضى لمناطقها أو حيث تقوم بيئتها الأساسية. فالنظام السياسي اللبناني الواهن المرن الرخو المتعدّد الرؤوس ، و​المقاومة​ القوية الفاعلة عنصران أساسيان جعلا وضع لبنان حالة خاصة لا تشبه مثيلاتها العربية.

أما في تشريح ما يجري وفي توصيفه، فمن الجيد أنه وفي أقلّ من ستة أسابيع افتضح الكثير الذي يساعد على فهم الحقيقة وتشخيصها خاصة بعد السلوكيات التي شهدها الميدان اللبناني والمواقف التي تسرّبت من ​أميركا​ وأوروبا، حيث بات من المؤكد أنّ في لبنان اليوم تحرّكين غير متطابقَيْ الأهداف كالتالي:

ـ حركة مطلبية شعبية تعبّر عن نفسها بالتظاهر السلمي والاعتصام الحضاري وتسعى لتأمين حقوق المواطن والإنسان وإقامة الدولة العادلة وهي حركة محقة يتوجب الإنصات إليها والعمل بما ترفعه من مطالب ويعتبر الاستنكاف عن الاستجابة لها وعدم تلبية مطالبها خيانة للوطن والإنسان، ودفعاً للبنان نحو ​الانتحار​ والانهيار.

ـ مؤامرة خارجية بقيادة أميركا تترجم نفسها بالضغط على المواطن لشلّ الحركة عبر ​قطع الطرقات​ وإقفال المؤسسات العامة والمرافق الإنتاجية لترفع درجة ​الفقر​ والعوز ونشر ​البطالة​ أكثر. مؤامرة تستهدف لبنان وحقوقه السيادية في أرضه وسيادته وثرواته ومقاومته وسلمه الأهلي واستقراره الاجتماعي. وتعتبر مواجهتها واجباً وطنياً والاستنكاف عن المواجهة او تسهيل تمرير المؤامرة خيانة وطنية أياً كان الفاعل والشريك والمسهّل الساكت.

فالمشهد اللبناني بات اليوم مسرحاً لهاتين الحركتين، والخطورة في الأمر تكمن في أنّ الخارج وأخذاً بالاعتبار الخصوصية اللبنانية المذكورة، يتكئ على مطالب الداخل ويستعملها قناعاً لحركته، ولذا وضع خطة موازية للحراك المطلبي الداخلي تقوم على أربعة أركان أولها استثمار التحرك الشعبي السلمي والتحشيد المدني في الساحات، ثانيها قطع الطرق الرئيسية لشلّ الحركة الداخلية وتعطيل ​الحياة​ في المستوى الرسمي والخاص، ثالثها إحداث فراغ سياسي عبر استقالة ​الحكومة​ ومنع تشكيل البديل سريعاً مع منع ​مجلس النواب​ من الانعقاد، أما الأخطر والأهمّ فهو العنصر الرابع الذي تمثل بالحرب الاقتصادية بشكل عام وبالضغط النقدي والمصرفي بشكل خاص.

أما الأهداف التي يبتغيها الخارج من تدخّله أو لنقل أميركا ومَن معها من تدخلهم في الأحداث اللبنانية فهي الاستثمار في البؤس الشعبي اللبناني الذي تسبّبت به حكومات ما بعد ​الطائف​ منذ العام 1992 من فقر وعوز وبطالة وما أغرقته به من الديون ومنعته من أبسط حقوقه وحجبت عنه أدنى احتياجاته، ما أوجد الحالة التي دفعت الشعب الى الصراخ والخروج الى الشارع ومكّنت أميركا من الاستثمار فيه لتحقيق أهداف سياسية واستراتيجية واقتصادية باتت واضحة حتى كاد يراها الأعمى في ال​سياسة​ والاستراتيجية.

فأميركا تريد من لبنان أولاً نفطه الذي ظهر، ف​ترامب​ كما يصف نفسه يحب ​النفط​، وتريد ثانياً أن تهدي إسرائيل من أرض لبنان ومائه مساحات شائعة تلزمها كما تقول لأغراض دفاعية في البر وتحتاجها لما فيها من غاز في البحر فضلاً عن توطين نصف مليون فلسطيني فيه، وتريد ثالثاً إقامة حكومة لبنانية لا تعترف بالمقاومة وطبعاً لا تضمّها ولا تصغي إلا لأوامر أميركا. حكومة تكون طيّعة لها لا صوت فيها لمعترض على إملاءات أميركا أو لمطالب بحكومة سيادية. وحتى يكون لها ذلك وتطمئن لتحقيقه فإنها تريد إخراج ​حزب الله​ من الحكومة ثم تحجيمه في مجلس النواب ثم عزله عن بيئته ثم خنقه ودفعه الى الموت البطيء من غير حرب او مواجهة.

اذن لأميركا والغرب أهدافهما وللشعب اللبناني مطالبه، اما الخطورة في الأمر فإنها تكمن في إصرار الخارج على المزج والخلط بين مؤامراته وأهدافها وبين الحركة الشعبية ومطالبها، ليتمكّنوا من تحقيق أهداف المؤامرة على لبنان عبر استغلال جوع ​الشعب اللبناني​ وألمه الذي أنتجته سياسات أتباع أميركا في العقود الأخيرة، علماً أنه عندما تتحقق أهداف المؤامرة في وضع اليد على النفط واقتطاع الأرض وتحوّل لبنان محمية أميركية لا مقاومة فيها، عند ذلك ستغيب مطالب ​الحراك الشعبي​ وقد يتحوّل الوضع اللبناني الى أسوأ مما كان عليه قبل الحراك. وقد بدأت نذر ذلك بالظهور كما وسيتمسك الأميركي بالطبقة السياسية الفاسدة والناهبة للبنان لتتابع سياسة النهب وإغراق لبنان بالديون حتى تتيح لأميركا توطين ​الفلسطينيين​ خدمة لـ إسرائيل . ومن المفيد أن نذكر هنا بأنّ ما رفع من مطالب في إطار ما أسمي ثورة سورية وما انتهت اليه الأمور من سرقة أميركا للنفط السوري واحتلال ​تركيا​ لأرض سورية، واقع فرض على سورية وشعبها التحضير لإجراءات فاعلة لتحرّر أرضها وثروتها.

نقول هذا لنحذر اللبنانيين عامة وأهل الحراك المطلبي الذي نؤيد وندعم خاصة، نحذرهم مما هو آتٍ ومما يتهدّد لبنان، بعد أن باتت الأدلة على الاستثمار الأجنبي لحراكهم واضحة. يكفي أن نلفت الى تعطيل مجلس النواب الذي كان متأهّباً لإقرار قوانين يطالب بها الحراك، ولما يعترض ​تشكيل الحكومة​ من عوائق يضعها الفريق العامل بالأوامر الأميركية ما يفرض تحمّل الجميع مسؤولياتهم والإعداد لمواجهة المؤامرة وعلى مستويات أربعة:

ـ المستوى الرسمي السياسي ويتمثل بالإسراع في تلبية مطالب الحراك الشعبي وعدم الاستجابة لما تطلبه أميركا بدءاً بتشكيل حكومة التكنوقراط، وصولاً الى موضوع المقاومة وما يرافق الأمر من تسريبات وحرب نفسية ليس أقلها ما تسرّب على لسان ضابط لبناني متقاعد يقوم بوظيفة مستشار لرئيس الحكومة المستقيل، وما نصح به من تحضير خطط لمواجهة بين ​الجيش اللبناني​ والمقاومة. وهو يعلم أنّ مثل هذا الصدام لن يكون الا لمصلحة إسرائيل ونشر الفوضى في لبنان. وهذا يتقاطع مع ما يتسرّب من قول أميركي مطالبنا او الفوضى .

ـ المستوى الأمني الميداني، ويتمثل بمنع وضع الكتل الشعبية في مواجهة بعضها وبقيام ​قوى الأمن الداخلي​ والجيش اللبناني بإبقاء الطرقات مفتوحة ومنع التعديات على حقوق المواطنين ومصالح الناس.

ـ المستوى الاقتصادي المالي، مع علمنا بأنّ العمل عليه أمر حساس وصعب لما تكمن فيه من الصعوبات في ظلّ سياسات مالية يقوم بها ​القطاع المصرفي​، ولكن تنبغي مواجهة الحقيقة والواقع في إطار الحدّ من الخسائر حتى تمرير أشهر المواجهة غير القصيرة.

ـ المستوى الشعبي الأهلي المدرك بوعي ما يجري وعدم الانجرار او الانجراف في ما يخطط دعاة المؤامرة على كلّ الصعد السياسية والنفسية والاقتصادية والأمنية. إنّ الوعي الشعبي هو سلاح مهمّ للتصدي للمؤامرة. وهنا يدخل دور الإعلام الوطني الذي ينبغي ان يكون لرفع منسوب المناعة الوطنية والشعبية وليس العكس.