صحيح أنّ كلّ القوى السياسية تتقاطع على أنّ الانتخابات البلدية والاختيارية لا تعكس بالضرورة الأحجام السياسية، في ظلّ التداخل الذي يطبعها بين ما هو محلّي وما هو عائلي وما هو تنموي، ولو لم يغِب عنها البعد السياسيّ، وإن تفاوت بين منطقة وأخرى، لكنّ الصحيح أيضًا أنّ مختلف الأطراف "منهمكة" منذ يوم الأحد الماضي، في محاولة "قراءة" النتائج والأرقام التي أفرزتها هذه الانتخابات في جولتها الأولى، في محافظة جبل لبنان.
ولعلّ المفارقة التي قد لا تكون الأولى من نوعها، إزاء استحقاق انتخابي في لبنان، تكمن في أنّ مختلف القوى السياسية، ولا سيما منها المعنيّة بالمعارك التي شهدتها بعض البلديات في محافظة جبل لبنان، وتحديدًا الأحزاب المسيحية الأساسية، سارعت إلى ادّعاء "الانتصار" في هذه الانتخابات بالمُطلَق، لتصبح تلقائيًا عملية البحث عن "خاسرين" بمثابة مهمّة تعجيزية، أو ربما مستحيلة، بعيدًا ربما عن بعض المستقلّين الذين غابوا عن السمع.
على سبيل المثال لا الحصر، سارع "التيار الوطني الحر" إلى إعلان الفوز في هذه الانتخابات، قبل أن تظهر نتائجها بالكامل، باعتبار أنّه ثبّت حضوره الوازن في مختلف أقضية ومناطق الجبل، مؤكدًا على لسان رئيسه جبران باسيل أنّه لا يزال "القوة الأساسية" فيها، ومثله فعل رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع، ورئيس حزب "الكتائب" سامي الجميل، اللذين هلّلا لما أسمياه "تغييرًا كبيرًا" كرّسته هذه الانتخابات، واعتبرا أنّه "يبشّر بالخير".
حتى النائب السابق فارس سعيد، الذي خسرت لائحته في عقر داره في قرطبا، بعدما واجه ما قال إنّها "محاولات إلغاء سياسي"، آثر التلميح إلى "انتصاره" في الانتخابات، داعيًا إلى قراءة الأرقام التي تحقّقت في مناطق أخرى، فاز فيها مرشحون دعمهم، ليبقى السؤال الكبير: إذا كان الجميع رابحين كما يدّعون، فمن الخاسر إذاً في هذه الانتخابات؟ وهل يكون لهذا الاستحقاق أيّ انعكاسات فعليّة على الواقع السياسي، تحضيرًا للانتخابات النيابية العام المقبل؟.
"الكلّ رابح، والكلّ خاسر". هكذا تختصر قوى سياسية المشهدية التي أفرزتها نتائج الانتخابات البلدية في جبل لبنان، فالقوى السياسية التي أعلنت بمجملها الانتصار، فصّلت هذه النتائج على قياسها، فبنت كلامها على أرقام محدّدة، وعلى بلدات معيّنة، متجاهلة الأرقام التي أفرزتها بلدات أخرى، والمؤشرات التي انطوت عليها، كما أنّ هذه القوى اختارت في مكانٍ ما "تبنّي" خيارات العائلات، لتحتكر بعد ذلك "الفوز"، وتنسب الفضل به لنفسها، دون أيّ اعتبار آخر.
ولعلّ "التيار الوطني الحر" مثلاً، الذي شكّل قبلة اهتمام القوى السياسية على اختلافها، يجسّد هذا "التكامل"، أو ربما "التناقض"، بين الربح والخسارة، بعيدًا عن "البروباغندا" التي حاول خصومه أن يكرّروها، بتسطيحهم للنتائج، عبر تصويره أنّه لم يحز أكثر من "مختارَيْن" مثلاً، أو تسخيفهم مثلاً لفوز مختار مدعوم منهم في معراب، مع ما ينطوي على ذلك من رمزية، مقابل خسارة بلديات أساسيّة على رأسها جونية، وكذلك جبيل والجديدة وغيرهما.
فبقراءة متجرّدة، لا يمكن نكران أنّ "التيار" حقّق الكثير في هذه الانتخابات، ليس بالمقارنة مع ما كان يحقّقه سابقًا، وقد تراجع بطبيعة الحال، ولكن بالمقارنة مع ما كان متوقّعًا، وقد يكون كلام رئيس "التيار" جبران باسيل، عن "تثبيت الحضور الوازِن" إنجازًا لـ"التيار"، الذي أكّد أنّه لا يزال يمتلك حيثيّة شعبيّة في مختلف مناطق الجبل، بما فيها تلك التي خسر فيها، بعكس ما يقال عن تراجع شعبّته، لحدّ وصولها إلى "الحضيض".
لكنّ ذلك لا يعني أنّ "التيار" لم يخسر، حتى لو صحّ كلام المحسوبين عليه أنّ السقف الذي حقّقه في مواجهة بعض التحالفات مهمّ وأساسيّ، كذلك التكتّل العريض الذي واجهه في جونيه مثلاً، فخسارة المدن الأساسية لا يمكن أن تكون تفصيلاً في المشهد، لكن الأهمّ من ذلك، أنّ "التيار" وجد نفسه في مواجهة "رفاق سابقين" استطاعوا أن يثبتوا حضورهم، ويدحضوا بالتالي الفرضية "العونية" القائلة بأنّهم لا يملكون أيّ حيثية من دونه، وخارج صفوفه.
في هذا السياق، يبرز الحضور الذي ثبّته النواب آلان عون وإبراهيم كنعان والياس بو صعب، إضافة إلى سيمون أبي رميا، في هذه الانتخابات، وهو ما قد يشكّل خسارة معنويّة كبيرة لـ"التيار"، تجلّت بشكل خاص في معركة بعبدا، مسقط رأس الرئيس السابق ميشال عون، حيث لا يستطيع "التيار" أن يهلّل لفوز مرشحيه في المجلس البلدي بفصل أصوات "حزب الله"، لأنّ خسارة معركة المخاتير أمام مرشحي آلان عون، كانت أكثر تعبيرًا.
ويسري الكلام عن "الربح والخسارة" بالنسبة إلى "التيار" على سائر القوى أيضًا، فـ"القوات" مثلاً لم تنجح في تحقيق "الانتصار المدوّي" الذي كانت تتطلّع عليه، وهي التي كانت تعتقد أنّها ستكتسح "التيار" بالمُطلَق، بعد المتغيّرات التي حدثت في الآونة الأخيرة، خصوصًا بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان، التي حرصت بعدها على "دغدغة" مشاعر الجمهور المسيحيّ تحديدًا، على حساب "التيار"، وإن تنصّل من تحالفه السابق مع "حزب الله".
في كلّ الأحوال، يقول العارفون إنّ "توظيف" هذه النتائج على المستوى السياسي لن يكون مُتاحًا في المرحلة المقبلة، إذ إنّ نتائج الانتخابات البلدية قد لا تعني الكثير عمليًا، بالنظر إلى تداخل العوامل التي تلعب دورًا على خطها، وبالنظر إلى طبيعة التحالفات التي شهدتها هذه الانتخابات، والتي يُستبعَد أن تستنسَخ في الانتخابات النيابية، حتى تحت شعار "التحالف الانتخابي"، فضلاً عن اختلاف النظام الانتخابي، الذي يفرض اختلافًا في التكتيكات والحسابات.
من هنا، يشدّد هؤلاء على أنّ ما بعد الانتخابات البلدية لن يختلف كثيرًا عمّا قبلها، إذ لا يُعتقَد أنّها ستترك انعكاسات فعليّة على المعادلات القائمة، علمًا أنّ الصورة لم تكتمل بعد بانتظار الجولات المقبلة في الأسابيع المقبلة، خصوصًا على مستوى انتخابات البقاع والجنوب مثلاً، وما تعنيه بالنسبة إلى "الثنائي الشيعي"، فضلاً عن انتخابات بيروت والشمال، وإن كان ثمّة من يعتقد أنّ التأجيل سيكون "مصير" انتخابات العاصمة على الأرجح.
مع ذلك، ثمّة من يتحدّث عن انعكاس محتمل لهذه الانتخابات على الواقع العام، لكن انعكاس سيبقى داخليًا، على صعيد "مراجعات" الأحزاب للنتائج والأرقام، وهي "مراجعات" لا بدّ أن تكون مفيدة لها في التحضير للانتخابات النيابية، رغم كلّ الاختلافات في الشكل والمضمون، فهي على الأقلّ يمكن أن تعطي فكرة أولية عن "اتجاهات" الناس، وربما تدفع بعض الأطراف إلى إعادة النظر بخطابها السياسي، فضلاً عن الانتخابي.
في النتيجة، لا شكّ أنّ للانتخابات البلدية والاختيارية بعدها السياسي، الذي تجلّى في أكثر من مكان، في جولتها الأولى في جبل لبنان، لكن لا شكّ أيضًا أنّ "التضارب" في قراءات النتائج له أيضًا دلالاته المرتبطة بطابع هذه الانتخابات، والتداخل الذي تنطوي عليه. "الكلّ رابح، والكلّ خاسر"، صحيح، لكنّ الصحيح أيضًا أنّ بإمكان القوى السياسية أن تحوّل "الخسارة" إلى "ربح" إذا تمتّعت بالروح الرياضية لتقبّل الخسارة أولاً، وفهمت أبعادها ورسائلها ثانيًا!.