منذ استقالة ​الحكومة​ على وقع ​الاحتجاجات​ الشعبية منذ أكثر من أربعين يوماً، لا تزال الأمور تراوح مكانها سياسياً، فيما تكثر المؤشّرات عن اقتراب البلاد من حافة الهاوية، اقتصادياً واجتماعياً ومعيشياً، وهو ما ينذر به ​انفجار​ الأزمات دفعةً واحدةً.

هكذا، تدور المفاوضات الحكومية التي تبدو عقيمة، في دائرةٍ تكاد تكون مفرغة. رئيس الحكومة المستقيل ​سعد الحريري​ يشترط تشكيل ​حكومة تكنوقراط​، فيصطدم بـ"فيتو" القوى السياسية الرافضة لمنطق العزل والإقصاء، فيعلن سحب اسمه من التداول.

يُتَّهَم الحريري من قوى الأكثرية بالمناورة تارةً والغنج والدلال طوراً لفرض شروطه، ويُحمَّل مسؤولية إحراق كلّ الأسماء المُفترضة لـ"خلافته"، بمُعزَلٍ عن هويّتها ومركزها، الأمر الذي ترك ​الاستشارات النيابية​ الملزمة معلَّقة، أقلّه حتى ​الساعة​.

ولكن، إذا كانت البلاد لم تعد تحتمل "ترف" انتظار "فرج" لا أحد يعرف إن كان سيأتي في المدى المنظور، لماذا لا تبادر الأكثرية إلى خلط الأوراق، وتشكيل حكومةٍ تلبّي، ولو نسبياً، تطلعات الشارع، بمُعزَلٍ عن اعتبار مثل هذه الحكومة من كثيرين، "أبغض الحلال"؟!.

مغامرة... انتحاريّة؟!

بالنسبة إلى قوى الأكثرية، وخصوصاً الثنائيّ الشيعيّ، لا يزال خيار ترؤس الحريري للحكومة المقبلة هو الوحيد المطروح، أو بالحدّ الأدنى توفيره "الغطاء" اللازم للحكومة، والمشاركة فيها بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر، وذلك لاعتباراتٍ وحساباتٍ شتّى، أولها قناعة هذا الفريق بأنّ حكومةً لا يرضى عنها الحريري ستكون بمثابة مغامرة "انتحاريّة" على كلّ المستويات.

ولعلّ الفكرة التي يروّجها الثنائيّ حول تمسّكه بالحريري منعاً لـ"هروبه من المسؤولية" تختصر جزءاً من الحكاية، إذ إنّ الثنائيّ، ومعه "​التيار الوطني الحر​"، يدركان دقّة وخطورة الوضع الذي يتخبّط به لبنان اليوم، وهما يحمّلان ما يسمّيانها "الحريريّة السياسيّة" المسؤولية الأولى عنه، من خلال السياسات الاقتصادية التي عملت على بلورتها منذ التسعينات وحتى اليوم.

ولذلك، فإنّ هذا الفريق، وبقدر استهجانه للتصويب المركّز على "العهد" في ​التظاهرات​ الناقمة على ​السلطة​ السياسية، بعيداً عن "أصل البلاء"، يصرّ على وجوب أن يكون الحريري جزءاً من المنظومة التي قد يحصل "الانهيار التام" في ظلالها، حتى لا يُقال مستقبلاً، وفق المنطق المُتّبَع هذه الأيام، إنّ هذا الانهيار لم يحصل إلا بعد "إزاحة" الحريري عن السلطة، وبالتالي أنّ "العهد" هو المسؤول الأوحد عنه.

ولا شكّ أنّ اعتباراتٍ أخرى تدخل على خط تصنيف أيّ حكومةٍ بمُعزَلٍ عن الحريري بـ"الانتحاريّة"، من بينها الخشية من "العزلة" التي قد تكون مثل هذه الحكومة مضطرة لمواجهتها، خصوصاً إذا ما اختار الحريري سلوك درب المعارضة، الأمر الذي سيؤدّي تلقائياً إلى اعتبارها حكومة "​حزب الله​"، كما حصل مع حكومة ​نجيب ميقاتي​ سلفاً، الأمر الذي قد يفرز "قطيعة" دوليّة للبنان، قد لا تكون محمودة العواقب في ظلّ الظروف الصعبة التي تشهدها البلاد هذه الأيام.

الصدمة المطلوبة...

انطلاقاً ممّا سبق، يبدو خيار الذهاب إلى حكومة أكثرية، المُستبعَد حتى إشعارٍ آخر، أشبه بمغامرةٍ انتحاريّةٍ لا يحبّذ الفريق الأكثريّ الدخول في فلكها، خصوصاً أنّ مثل هذه الحكومة لن تكون محصَّنة سياسياً، بفعل غياب قوى أساسيّة عنها، من "​تيار المستقبل​"، إلى "​الحزب التقدمي الاشتراكي​"، وحتى "​القوات اللبنانية​".

ولكن، إزاء هذه الوقائع، ثمّة من يطرح علامات استفهامٍ مغايرة، إذ هل من بديلٍ متوافرٍ في هذه اللحظة التي لا شكّ أنّها استثنائيّة في ​تاريخ لبنان​؟ أليس "انتحارياً" أيضاً ترك البلاد رهينة حكومة تصريف أعمالٍ لا تقوم بشيءٍ يُذكَر لمعالجة الوضع الدقيق؟ وأليس "انتحارياً" أيضاً عدم الذهاب سريعاً إلى تشكيل حكومةٍ أصيلةٍ تتحمّل المسؤولية، بدلاً من التفرّج والانتظار وتقاذف كرة المسؤوليّة كما هو حاصلٌ اليوم؟.

من هنا، ثمّة قناعة بدأت تتولّد لدى كثيرين داخل قوى الأكثرية، بضرورة خلط الأوراق وطيّ صفحة ترؤس الحريري للحكومة، طالما أنّ شروطه مرفوضة بالمُطلَق، وبمُعزَلٍ عمّا إذا كان الرجل يناور أم لا، وذلك لأنّ "لا إكراه في ​السياسة​"، وبالتالي لا أحد يستطيع إجبار أحد على التصدّي للمسؤوليّة، إذا كان يقول جهاراً إنه لا يريد ذلك، مع أنّ هؤلاء يعتقدون أنّ الحريري "يتمسكن ليتمكّن" في مكانٍ ما، وبالتالي ليصوّر نفسه "المُنقِذ الوحيد"، الذي لا بدّ للحلّ أن يمرّ عبره، وبشروطه هو.

بيد أنّ المطلوب برأي هؤلاء قد يكون إحداث "صدمة" من شأنها أن تكسر جدار الصمت الذي تتخبّط به ​الأزمة​ اللبنانية المتفرّعة إلى سلسلة أزماتٍ لا نهاية لها، وإنّ هذه "الصدمة" قد تكون الذهاب إلى خيار "أبغض الحلال"، أي تشكيل حكومةٍ قد تُصنَّف من لونٍ واحدٍ، ولكن مع مراعاة دقّة الظروف، من حيث العمل على أن تلبّي هذه الحكومة تطلّعات الشارع بشكلٍ أو بآخر، فتتألّف من أشخاصٍ من ذوي الاختصاص ومن المشهود لهم بالكفاءة، مع تطبيق مبدأ "الرجل المناسب في المكان المناسب"، والأهمّ أن تخلو من الوجوه الحزبيّة "النافرة"، أو التي يتمّ التصويب عليها سواء عن وجه حقّ أو لا.

"أبغض الحلال"

منذ استقالة الحكومة، تحاذر الأكثرية النيابية الذهاب إلى حكومةٍ يمكن أن تُصنَّف من لونٍ واحد، أو حتى حكومة مواجهة، تفادياً للاصطدام مع الشارع من جهة، ومنعاً لهروب الآخرين من المسؤولية في مثل هذه اللحظة الدقيقة من جهةٍ ثانية.

لكن، ولأنّ التاريخ لا يرحم، فإنّ المسؤولية تتطلّب المبادرة فوراً، لأنّ كلّ تأخيرٍ إضافيّ في الدعوة للاستشارات و​تشكيل الحكومة​، يكبّد البلاد خسائر مضاعفة، ويقرّبها أكثر وأكثر من المجهول الذي لا يكفّ السياسيون عن التحذير منه ليلاً نهاراً.

وتماماً كما أنّ ​الطلاق​ يُعَدّ "أبغض الحلال"، ولكنّه ضروريّ في بعض الحالات، يبدو مثل هذا الخيار، على خطورته ودقّته، واقعياً في مقاربة الأزمة، إلا إذا تواضع المعنيّون، وقرّروا التخلّي عن عنادهم في اللحظة الأخيرة، والتي تكاد تصبح وراءهم!