منذ بدء ​الأزمة​ الحكوميّة نتيجة ​الاحتجاجات​ الشعبية في تشرين الأول الماضي، بدا واضحاً "الانقلاب" الذي طرأ على صورة التحالفات السياسيّة، ولا سيما ​التسوية الرئاسية​ التي حكمت البلاد خلال الأعوام الثلاثة الماضية، بما ذكّر كثيرين بالفرز العمودي الذي كان حاصلاً في مرحلة ما بعد العام ٢٠٠٥، في ضوء الانقسام بين معسكري ما كان يُعرَف بالثامن والرابع عشر من آذار.

وفي ضوء الواقع الذي استجدّ، كان أكثر وضوحاً اختيار كلّ من "​تيار المستقبل​" و"​الحزب التقدمي الاشتراكي​" و"​القوات اللبنانية​" ركوب موجة الشارع بشكلٍ أو بآخر، والانتقال من صفوف الموالاة إلى المعارضة، وهو ما تجلّى خصوصاً من خلال تبنّي هذه الأحزاب المطلب الشعبيّ القائم على تشكيل حكومة "تكنوقراط" بعيدة كلّ البُعد عن الأحزاب السياسية ودهاليزها.

لكن، ما إن بدأت الصورة توحي بإمكان خروج الدخان الأبيض من المفاوضات الحكوميّة في ​الساعات​ الماضية، حتى برزت بوادر "انقلاب" جديد في الصورة، خصوصاً على خط "المستقبل" و"الاشتراكي"، "انقلاب" قد يكون النائب السابق ​وليد جنبلاط​ خير من عبّر عنه حين أعلن بصراحةٍ مثيرةٍ للجدل أنّ حزبه سيقاطع ​الحكومة​، ولكنّه سيسمّي في المقابل، الوزراء ​الدروز​ فيها!.

عصفوران بحجر!

ينتقد كثيرون النائب السابق وليد جنبلاط على ما يسمّونها "الانعطافة" التي لا يجد الرجل حرجاً في القيام بها عند كلّ استحقاق، إذ يحفل ​تاريخ لبنان​ الحديث بالكثير من المحطّات التي نقل فيها "الجنبلاطيون" البندقيّة من ساحةٍ إلى أخرى، إن جاز التعبير، وفقاً للمصلحة السياسية الآنيّة، أو بناءً على قراءة "البيك" للتغيّرات الإقليميّة الآتية هنا أو هناك.

ومن هذه الزاوية تحديداً، ثمّة من يقرأ المواقف التي أطلقها جنبلاط خلال الساعات الماضية، بعد دخوله مجدّداً على خط مساري التكليف والتأليف، على أنّها بمثابة "نصف انعطافة" يسعى من خلالها إلى حفظ مكانه في أيّ تسويةٍ يمكن أن تحصل، وأياً كان اتجاه البورصة في الحكومة والشارع على حدّ سواء، بما يتيح له مساندة "الرابح" في النهاية، من ايّ اتجاه أتى، أو ركوب موجته إن جاز التعبير.

ويشبّه كثيرون مواقف جنبلاط الأخيرة بمواقفه في الأيام الأولى لـ"الحراك"، فهو كان السبّاق إلى دعوة الحكومة إلى الاستقالة، ويُقال إنّه من حرّض رئيس حزب "القوات اللبنانية" ​سمير جعجع​ على الاستقالة، قبل أن يتركه في منتصف الطريق، بحُجّة أنه يريد البقاء إلى جانب الحريري، بحيث يبقيان معاً أو يخرجان معاً، ما فسّره كثيرون على أنّه خشية من أن تصمد الحكومة، فيكون هو "الخاسر الأكبر" إذا ما خرج منها.

ولعلّ المعادلة التي أطلقها جنبلاط لجهة مقاطعة الحكومة وتسمية وزرائها في الوقت عينه تختصر كلّ شيء، فالرجل الذي لطالما كان جزءاً من الحكومات المتعاقبة منذ ​الطائف​ وحتى اليوم، بما فيها تلك التي كان "الحريريون" يخرجون منها، كما حصل مثلاً في حكومة ​نجيب ميقاتي​ الشهيرة، التي سُمّيت بحكومة "​حزب الله​"، يمهّد بذلك لضرب عصفورين بحجر، عبر المشاركة غير المباشرة في الحكومة العتيدة، إذا ما قُدّر لها أن تبصر النور، والاحتفاظ ببطاقة "المعارضة" في حال أسقطها الشارع بالضربة القاضية قبل أو بعد ذلك.

رهان "مستقبليّ"؟!

وتماماً كما يتصرّف "الاشتراكي" على قاعدة حفظ موقعه كيفما مالت الدفّة في نهاية المطاف، إن جاز التعبير، يفعل رئيس الحكومة المستقيل ​سعد الحريري​ برأي الكثيرين، هو الذي يرفض بالمُطلَق تشكيل حكومة تكنو-سياسية يصرّ عليها الثنائيّ الشيعيّ و"​التيار الوطني الحر​"، ولكنّه يبدي استعداده خلف الكواليس لدعمها بل حتى "مباركتها"، إذا ما رسا الخيار عليها في نهاية المطاف.

وفي هذا السياق، طُرِحت الكثير من علامات الاستفهام عن سبب عدم تلقّف الحريري شخصياً للمبادرة، إذا كان موافقاً على السير بها، خصوصاً أنّ ترؤسهللحكومة على المستوى الشخصي، والذي كان مطلباً أساسياً للثنائيّ الشيعيّ على امتداد مراحل المفاوضات، من شأنه أن يمنح الحكومة "حصانة" تقيها من خطر السقوط التلقائي والفوري، وتجنّبها أيضاً العزلة التي يلوّح بها البعض دولياً وإقليمياً، على رغم ما يُحكى عن "تطمينات" تلقّاها المعنيّون في الأيام الماضية في هذا الصدد.

وإذا كان موقف "المستقبل" انطلاقاً من ذلك مختلفاً عن "الاشتراكي"، باعتبار أنّ ما يمكن وصفه "غنجاً ودلالاً" جاء نتيجة بديهيّة لتمسّك قوى ​السلطة​ به، باعتبار أنّه يمثّل الأكثرية السنّية، وأنّ الحكومة لا يمكن أن تعمّر من دون مباركته لها، فإنّ ثمّة من يخشى أن يكون موقفه مجرّد "مناورة" يسعى من خلالها، كما جنبلاط، إلى ضرب أكثر من عصفور بحجر، الأمر الذي عزّزته بعض التحرّكات التي شهدتها مناطق محسوبة عليه بشكلٍ أو بآخر، فضلاً عن التسريبات حول موقف رؤساء الحكومات السابقين الضبابيّ من أيّ تسوية يمكن أن تأتي بغير الحريري رئيساً للحكومة في هذه المرحلة.

من هنا، ثمّة من يرى أنّ الحريري، وبخلاف ما يعلنه ويجاهر به، لا يزال "يراهن" على سقوط صيغة الحكومة "التكنو-سياسية" في الشارع، وهو يعتقد أنّ ذلك سيشكّل "فرصة ذهبيّة" بالنسبة إليه، لفرض شروطه ل​تشكيل الحكومة​، بعدما عجز عن إقناع شركائه المفترضين بها بالحُسنى. ولكنّ الرجل في الوقت نفسه، يحرص على عدم وضع العصيّ في الدواليب، لكي لا يُتّهَم بأنّه من يُعرقِل، والأهمّ لعدم ترك الساحة لخصومه، في حال نجحت الحكومة في تخطي العوائق، وصحّ ما يُحكى عن "ضوء أخضر" تحظى به من عواصم القرار.

في دفّة واحدة...

يختصر موقفا "المستقبل" و"الاشتراكيّ" الكثير ممّا يمكن أن يُقال عن الذهنيّة التي تُدار بها المفاوضات الحكوميّة، والتي لا توحي بأنّ شيئاً ما تغيّر في العقليّة بعد "ثورة ١٧ تشرين" كما يحلو لكثيرين القول.

لا أحد ينكر أنّ "المستقبل" و"الاشتراكي" نجحا في مكانٍ ما في ركوب موجة الشارع، بل سجّلا بعض "الانتصارات" على خطّها، على رغم إصرار الكثير من المتظاهرين على شمولهما بمعادلة "كلن يعني كلن"، علماً أنّهما برأي كثيرين يجب أن يتصدّرا اللائحة، باعتبار أنّهما من "الثوابت" في الحكم منذ أكثر من ٣٠ عاماً، من دون انقطاع.

بيد أنّ الفريقين اللذين تبنيا الخطاب "الشعبوي" في مكانٍ ما، لا يجدان حرجاً اليوم في العودة إلى مقاعد السلطة، ولو بشكلٍ غير مباشر وعبر اختصاصيّين، ما يجعلهما في دفّةٍ واحدةٍ مع أولئك الذين لا يجدون حرجاً في نقاش ​تفاصيل​ الحصص، وكيفية تقاسم الحقائب، كما لو أنّ شيئاً لم يكن، ومن دون أيّ اعتبارٍ للمتغيّرات التي كان يفترض أن تُحدِث، بالحدّ الأدنى، "ثورة" على ​المحاصصة​ قبل أيّ شيء!