أعاد رئيس ​التيار الوطني الحر​ ​جبران باسيل​ خلط الأوراق الحكومية بتموضعه الجديد كمعارضة محتملة لسلطة لم ُتشَكّل بعد على مسافة ثلاثة أيام من استشارات نيابية طال انتظارها وهي عرضة للتأجيل مرّة أخرى إذا تعثّر الإتفاق على شكل ​الحكومة​ بعد حسم هوية مؤلفها بضربة المفتي القاضية .

رئيس الجمهورية​، مبدئياً ، يريد إجراء الإستشارات الملزمة في موعدها المحدد يوم الإثنين المُقبل ، بالرغم من أن تكتله أعلن عن عدم مشاركته في الحكومة ​الجديدة​ لرمي الكرة في ملعب الحريري وربما تعقيد مهمته ، ومن الطبيعي أن لا يمنح التيار الوطني الحر أصواته للحريري الذي بدوره يشترط دعم الجميع وتحديداً ​الثنائي الشيعي​ و​رئاسة الجمهورية​ لتشكيل حكومة إختصاصيين مدعومة من ​الدول المانحة​ تقوم بالإصلاحات المستعجلة للنهوض بالوضع ​الإقتصاد​ي المنهار ، وهو لن يقبل بتكليف الحد الأدنى من الأصوات ولن ينجّر إلى سيناريو يطيل أمد ​تشكيل الحكومة​ كما يفترض البعض ، على قاعدة التكليف من دون التأليف ما يُحمّل الحريري المزيد من الأكلاف السياسية ناهيك عن حرقه في الشارع كما حصل مع أسلافه الذين سقطوا على خطّ التكليف . وربما استشعر باسيل الرياح العاصفة القادمة من وراء المحيطات والتي تحمل نُذر مواجهة قاسية وحزمة من العقوبات على حلفاء ​حزب الله​ التي يجري إعدادها في أروقة ​الكونغرس الأميركي​ ، ففضّل إبراز تمايزه عن حليفه دفعاً للشر من جهة ، والتفرغ لاستعادة ما خسره تياره في الشارع أمام غريمه في الساحة ​المسيحية​ رئيس حزب القوات ال​لبنان​ية ​سمير جعجع​ .

ينطلق الحريري في مقاربته للأزمة اللبنانية من واقعية سياسية تبعاً للمعلومات والتقديرات التي في حوزته بأنّ لبنان دخل دائرة الإستهداف ال​إسرائيل​ي الإقتصادي الجدّي سعياً لتطويق حزب الله وإظهاره بأنه جوهر المشكلة وأساسها . فإسرائيل لم تعد تحتمل تمدُد حزب الله وتوسعه في المنطقة بعد أن تحوّل إلى لاعب إقليمي تفوق قوته وتأثيره قوة وتأثير دول وجيوش في المنطقة . و ليس سراً أن الكيان الإسرائيلي يعمل ليلاً ونهاراً لضرب الحزب وتقويض حضوره في لبنان والمنطقة بعد أن عجزت آلته العسكرية عن هزيمته ، وبالرغم من ذلك استطاع الحزب أن يُكرّس معادلة الرد من الحدود اللبنانية على أي استهداف إسرائيلي لقواته في ​سوريا​ تصريفاً لفائض قوته في الميزانين العسكري والإستراتيجي . ما تقدّم ليس من باب التخوين ل​سعد الحريري​ واتّهامه بالتواطؤ مع جهات خارجية ، وإن كان يُنتَقَد الرجل ويُناقش في أدائه ،إنما هو توصيف لمعادلة وضعتها ​الإدارة الأميركية​ ورمتها بوجه تكليفه مفادها : لا ​مساعدات​ مالية واقتصادية ولا استثمارات خليجية في لبنان مع بقاء حزب الله في الحكومة .

عقيدة ترامب الإقتصادية

مع فوز ​دونالد ترامب​ بالإنتخابات الأميركية في خريف ٢٠١٦ ودخوله ​البيت الأبيض​ في بداية العام التالي تبدّلت آليات العمل في أذرع الإدارة الأميركية وخاصة الخارجية منها . فالرئيس الذي خضع عهده منذ بدايته للتحقيق الفدرالي بسبب التدخل الروسي لصالحه في الإنتخابات الرئاسية ، ومن بعدها اتهامه من غريمه الحزب الديموقراطي بسوء استخدام ​السلطة​ وصرف النفوذ لدى دولة خارجية ( أوكرانيا )ضد منافسه المحتمل (​جو بايدن​) في رئاسيات ٢٠٢٠ ، استطاع أن يُحقق ما عجز عنه أقرانه على مستوى التجارة الدولية متخذاً من العقوبات الإقتصادية والإجراءات الضريبية نهجاً وسبيلاً وهو ما أدّى إلى انتعاش اقتصادي داخلي حافظ على ارتفاع أسهم ترامب الشعبية بالرغم من هفواته وارتكاباته ومخالفاته وتجاوزاته المتكررة لكلّ المبادئ الأخلاقية والقيَمية التي يتغنّى بها الشعب الأميركي . بدءاً من جارتيه كندا و​المكسيك​ وتعديل اتفاقية "نافتا" لصالح ​الولايات المتحدة​ ، وصولاً إلى حلفائه الأوروبيين والأتراك وليس انتهاءا ب​إيران​ و​روسيا​ و​الصين​ و​فنزويلا​ و​كوريا الشمالية​ . وبالرغم من أن العقوبات الإقتصادية كانت وسيلة اتبعتها الإدارات الأميركية المتعاقبة ، إلا أن إدارة ترامب تفنّنت و"أبدعت " في استخدامها إلى آخر الحدود وصولاً إلى تجويع الشعوب المتعمّد وخلق الأزمات والإضطرابات الداخلية دون أدنى اكتراث بحقوق الإنسان وبما يخالف القانون الدولي وينتهك أصوله . وقد بلغت ذروة تعبير ترمب عن عقيدته القتالية الجديدة عندما بلع إسقاط إحدى طائراته المسيّرة فوق معابر ​النفط​ في ​مضيق هرمز​ على يد ​الحرس الثوري الإيراني​ ولم ينجرّ إلى الردّ العسكري ولو لحفظ ماء الوجه ، لأنّ أثر العقوبات الإقتصادية يبقى أقسى وأقوى وأنجع من أثر المعارك والحروب التي ستزهق الأرواح و ستُكبّد ​الخزينة الأميركية​ مئات المليارات من الدولارات التي يجمعها ترمب بأشفار عيونه من ملوك وأمراء العرب . وقد نجح رئيس الوزراء الإسرائلي بنيامين نتناياهو في إقناع الرئيس الأميركي بتفعيل "عقيدته الإقتصادية" في لبنان ومنع المساعدات الدولية والمالية عنه طالما يتمتع حزب الله بنفوذ واسع داخل ​الدولة​ والحكومة ، وكأحد أوجه الضغط على إيران ومحاربة نفوذها المنتشر في المنطقة العربية وصولاً لأقوى نقاطها الإستراتيجية في شرق المتوسط وعلى مرمى حجر من ​فلسطين المحتلة​ . ولم يحتاج ​نتنياهو​ إلى مجهود لإقناع ​السعودية​ بوقف دعمها المقطوع أصلاً ، لأنّ السعودية تعتبر بأن لبنان خرج من دائرة نفوذها واهتماماتها منذ ​التسوية الرئاسية​ . فولي العهد السعودي محمد بن سلمان الذي سعى لإسقاط الحريري واستبداله وأجبره على استقالة صورية ، لن يمدّ له العون ويُعيد تعويمه .

ماذا عن روسيا ؟

في بداية الإنتفاضة اللبنانية أبلغ نائب وزير ​الخارجية الروسية​ ​ميخائيل بوغدانوف​ المعنيين في لبنان بأن روسيا لن تسمح بتغيير الموازيين السياسية على أرض الواقع ، بمعنى آخر فإنّ روسيا لن تقبل بأن توسّع الولايات المتحدة من نفوذها داخل لبنان وبما يشكل خطر مستقبلي على وجودها العسكري في ​ميناء طرطوس​ ، أحد أهم المواقع المطلة على شرق المتوسط . ومن المعروف أنّ الولايات المتحدة شرعت ببناء أكبر سفارة لها في ​الشرق الأوسط​ في لبنان على بعد أمتار قليلة من ​الشاطئ اللبناني​ ، وهو الأمر الذي يثير تساؤلات كثيرة عن الحاجة لسفارة بحجم قاعدة عسكرية في بلد صغير كلبنان . فروسيا التي تدخلت عسكرياً في سوريا حفاظاً على نفوذها لن تسمح باختلال المعادلة اللبنانية الداخلية ، ولن تعطي ترامب في لبنان ما خسره في سوريا .

المعادلة الداخلية

قبل تسع سنوات أسقط حزب الله وحلفاؤه حكومة الرئيس الحريري الأولى، في تحدٍ قوي و صريح للولايات المتحدة ولإدارة الرئيس ​باراك أوباما​ الذي دخل الحريري بيته الأبيض رئيساً وخرج منه رئيساً مُقالاً بضربة الوزير الملك . أما اليوم يتمسك حزب الله بالحريري لعدة اعتبارات يراها ضرورية للحفاظ على الإستقرار الداخلي وإبعاد الساحة عن التوتر المذهبي ومواجهة ​الأزمة​ الإقتصادية واجتراح الحلول . فكل من الحريري وحزب الله يتمسك أحدهم بالآخر وفقا لما يرياه، و كل من وجهة نظره . فالحزب يريد حكومة مختلطة يرأسها الحريري ويتمثّل فيها الحزب الذي يرفض التنازل أمام الأميركي والموافقة على انكفائه الحكومي الذي سيشكّل أعرافاً جديدة وغير مسبوقة في ​الحياة​ السياسية وسيُلغي مسبقاً نتائج كل ​انتخابات​ ستحصل في ​المستقبل​ بحجّة العقوبات الإقتصادية المفروضة على الحزب . والحريري يريد الحزب داعماً ومساعداً، ويريده سداً منيعاً لحماية إجراءات الحكومة الإقتصادية والسياسية والأجتماعية من دون المشاركة فيها . فمن ناحية يعتبر الحريري بأنّ وجوده على رأس الحكومة ضرورة ميثاقية يرعاها ​الطائف​ ، ومن ناحية أخرى ينكر على الأطراف الأخرى تمثيلها الميثاقي ، في منطق لا يستوي وفق الصيغة اللبنانية في الجمهورية الثانية المترنحة قبل بلوغها عقدها الثالث بأشهرٍ معدودة .

في المحصّلة فإننا أمام واقعٍ مأزوم و شديد التعقيد ، متشابك ومتداخل على المستويات الداخلية والإقليمية والدولية ، يُشَكّل فيه الإقتصاد سلاح ترامب الأمضى حتى بلغ به القول : نحن أكبر قوة إقتصادية في ​العالم​، فمن يجرؤ على مواجهتنا ؟