فجأة، ومن دون سابق إنذار، انقلبت "السلميّة" التي تغنّى بها مؤيدو ​التظاهرات​ الشعبيّة، وتحوّل الشارع إلى ساحة معارك بين المحتجّين وال​قوى الأمن​يّة تارةً، وبينهم وبين من أطلِق عليهم وصف "المندسّين" تارةً أخرى.

وفيما ذهب البعض إلى التقليل من حجم ما حصل، باعتبار أن مبدأي "​الثورة​" والسلميّة لا يلتقيان، وأن العنف من بديهيّات أيّ عمل "ثوري"، وهو ما تشهد عليه معظم "الثورات" تاريخياً، كانت البصمات السّياسية غير البريئة واضحة خلف مستجدات ما حصل.

فهل هي صدفة أن يحصل ما حصل في الشارع عشية الموعد المفترض للاستشارات النيابية قبل تأجيلها في اللحظة الأخيرة؟ وأيّ رسائل سيّاسية أراد محرّكو الشارع توجيهها خلف كل ذلك؟ وفي أي اتجاه؟.

تكليف بالشارع؟

في توقيت مفاجئ شكلاً ومضموناً، انقلبت الصورة في الشارع خلال عطلة نهاية الأسبوع، واضعة حداً للسلميّة التي طبعت تحركات الشهرين المنصرمين، ليسود مكانها جوٌّ من التوتر، على وقع الإشكالات المتنقلة التي تنوّع أطرافها وتشعبت خلفياتها وأسبابها.

فبين ما أثير عن "مندسّين" بينهم من ينتمي إلى مجموعات حزبية وطائفية معروفة تحركوا رفضاً لشتم زعيم من هنا أو احتجاجاً على نوايا تطبيعيّة من هناك، وبين ما قيل عن "طابور خامس" بين "الثوار" افتعل "الشغب" مع قوى الأمن، بعدما انتابه "اليأس" من الوضع القائم، تفوقت صورة الفوضى على ما عداها، لتُطرح علامات استفهام بالجملة عن خلفيات ما حصل، من حيث التوقيت ورمزيّته أولاً.

وفي هذا السياق، ذهب كثيرون إلى إسقاط "نظريّة المؤامرة" على ما حصل في الشارع، من حيث الاعتقاد أنّ لرئيس حكومة ​تصريف الأعمال​ ​سعد الحريري​ دوراً في تحريك الشارع، تفادياً ربما لتكليفه على وقع ​الاحتجاجات​ الشعبية المناهضة له، ومنعاً لـ"إحراق" اسمه كما حصل مع أسلافه من المرشّحين ل​رئاسة الحكومة​ ​محمد الصفدي​ و​بهيج طبارة​ و​سمير الخطيب​، والذين تبيّن أنّ ترشيحهم لم يكن سوى "شراء للوقت" بانتظار توافقٍ لم يحن أوانه.

وإذا كان أصحاب هذا الرأي استندوا في ذلك إلى طريقة تصرّف القوى الأمنيّة مع ​المتظاهرين​، وردّها المباشر على "الشغب" كما لم يحصل على امتداد الأسابيع الماضية، حتى خلال مراحل ما عُرِفت بـ"الغزوات" في أكثر من مكان، فإنّ تصريح وزيرة الداخلية والبلديات ​ريا الحسن​ جاء ليعزّز وجهة النظر هذه، خصوصاً بعدما ذهبت إلى حدّ دعوة من وصفتهم بالمتظاهرين السلميين إلى الانسحاب من الشوارع، بحجّة وجود طابور خامس يسعى للتخريب، وهي دعوةٌ لم تصدر عن قوى ​السلطة​ سابقاً، في عزّ الاضطرابات وأوجها.

وسيلة ابتزاز؟

إلحاقاً بما سبق، ثمّة من يرى أنّ الشارع كان خلال عطلة نهاية الأسبوع مجرّد وسيلة ضغط وابتزاز جديدة استخدمها السياسيون لتحسين شروطهم التفاوضية كما فعلوا أكثر من مرّة، تماماً كما يمكن اعتباره "ذريعة" لتأجيل ​الاستشارات النيابية​ ريثما تحصل "المعجزة" ويتوافق المتخاصمون على صيغةٍ تسوويّةٍ تلبّي تطلعاتهم، في وقتٍ تزداد الخشية من تصاعد مشهد "الفوضى" في الأيّام المقبلة، أقلّه انسجاماً مع هذا المنطق.

لكن، من هذا المنطلق، فإنّ علامات استفهامٍ أكبر يمكن أن تُطرَح حول انعكاس ما حصل ويحصل وقد يحصل في الشارع على الحركة السياسية شبه الجامدة، خصوصاً في ضوء علاقات القطيعة القائمة بين مختلف الأفرقاء، وهو ما ظهر جلياً من خلال المواقف التي طفت على السطح على امتداد الأسبوع الماضي، الأمر الذي يجعل البلاد مقدمة على مجهول قد تتصاعد خطورته بعد التكليف أكثر وأكثر، إن حصل التكليف أصلاً.

وإذا كان لافتاً على سبيل المثال، أن يخرج قياديّون في "​التيار الوطني الحر​" لاستنكار اعتداءات القوى الأمنيّة على المتظاهرين، في رسالةٍ واضحةٍ وصريحةٍ إلى "تيّار ​المستقبل​"، ومن خلفه الحريري، فإنّ ثمّة من يسأل عمّا إذا كان "التيار" بدوره قد دخل على خط استخدام الشارع لتحقيق مآربه السياسية، خصوصاً أنّ كثيرين لا يزالون ينظرون إلى إعلان وزير الخارجيّة ​جبران باسيل​ الانتقال إلى صفوف المعارضة، من دون "مباركة" أقرب الحلفاء، أيّ "​حزب الله​"، على أنّه "مناورة" تشبه تلك التي قام ويقوم بها الحريري.

وفي المقابل، إذا كان رئيس حكومة تصريف الأعمال الذي سعى لركوب موجة الشارع منذ تقديم استقالة حكومته، من دون أن ينجح في فرض نفسه "مطلباً جماهيرياً" بوصفه "الخلاص الوحيد"، استطاع عبر الشارع "إحراق" كلّ المرشّحين المحتملين لخلافته، فإنّ كثيرين يفسّرون ما حصل على أنّه "مناورة" متجدّدة من جانبه لقطع الطريق على أيّ محاولةٍ لإلحاقه بأسلافه، وبالتالي إبعاد كأس رئاسة الحكومة عنه، علماً أنّ ما أثير عن تمنٍّ وجّهه ل​رئيس الجمهورية​ لتأجيل الاستشارات لم يكن بسبب ما حصل في الشارع، بعدما تمكّن من تخفيف وهج "النقمة" المفترضة على تسميته، ولكن بعدما تبيّن له أنّ تكليفه لن يحظى بـ"الشرعية" المطلوبة، خصوصاً من الناحية الميثاقيّة، بعدما أعلنت الكتل المسيحيّة الكبرى نيّتها عدم تسميته.

إلى أين؟

في السابع عشر من تشرين الأول الماضي، انتفض ال​لبنان​يّون في وجه الطبقة السّياسية رفضاً لطريقة إدارتها للشأن العام، واحتجاجاً على نهج ​المحاصصة​ ​الفاسد​ الذي يُعتمَد، ولو خلف عناوين براقة ومغرية، مثل التوافق والوحدة الوطنية.

اليوم، وبعد مرور أكثر من شهرين، لا يبدو أنّ الكثير تغيّر، بل إنّ المفارقة المثيرة للانتباه تكمن في أنّ الشارع المنتفض، تحوّل إلى أداةٍ تستخدمها السلطة نفسها، لتصفية الحسابات فيما بينها، وإن اتفقت بجميع فروعها على تجاهل صوت الناس.

هكذا، يُعيَّن موعدٌ للاستشارات النيابية، ثمّ يطير عبر الشارع بسبب "احتراق" الاسم المتّفَق عليه، ليُعيَّن موعدٌ جديد، قبل أن يطير مجدّداً بطلبٍ من الداعين إلى عدم تأخير الاستشارات ثانيةً واحدةً، خوفاً من "احتراق" الاسم التوافقيّ، أو حصوله على نسبة أصوات خجولة، وغير عابرة للطوائف والأحزاب.

وفق هذا النهج، تسير إذاً الطبقة السياسية في معالجة أزمةٍ قد تكون الأخطر في ​تاريخ لبنان​ الحديث، معالجةٌ إن استمرّت على هذا النحو، قد لا تفضي سوى إلى المجهول الذي يحذر الجميع منه منذ تأسيس دولة لبنان الكبير، وفي ذكرى مئويتها، فهل يدرك السياسيون ما هم فاعلون، وهل يمتلكون إجابة على السؤال الأشهر... إلى أين؟!.