رغم أهـميّة الـهيئات الرقابـية ودورها فـي مكافـحة ​الفساد​، تبقى الإرادة السياسية عاملاً أساسياً فـي نـجاح الـحرب على الفساد ووضع حدّ لتـجاوزات بعض رؤساء البلديات وأعوانـهم.

إنّ الـمدخل الـحقيقي للإنـماء هو فـي البلديات، وإن تـحقّق الإنـماء فـي البلديات أصبح الوطن كله نامياً، فالإصلاح يبدأ من البلديات، التـي ويا للأسف، فـي غالبيتـها عشعش فيها الفساد وتعاظم الـهدر والنهب والـمحسوبيات واستغلال النفوذ وإساءة إستعمال ​السلطة​.

إنّ الطبقة السياسية والسلطة الـحاكمة، تـمكّنتا طوال عقود من إخفاء الـملفّات الفاضحة التـي تطال بعض رؤساء البلديات، وحفظها فـي الـجوارير، لأنـها تـحتاج إلى خدمات رؤساء وأعضاء الـمجالس ​البلدية​، الذيـن يُعتبـرون بغالبيتـهم "مفاتيح إنتخابية" أو مـحسوبيـن على الأحزاب الـحاكمة، ولذلك يُلحِق إستدعاؤهم إلى الـتحقيق ضرراً بـهؤلاء.

وقد عمد بعض رؤساء البلديات، وقبل ​الإنتخابات النيابية​ الأخيـرة، وخوفاً من فتح ملفاتـهم الفاضحة، إلى تبديل ولاءاتـهم، فنقلوا البارودة من كتف إلى كتف، ولـجأوا إلى تأيـيد العهد والإحتماء به، وخاضوا الـمعركة الإنتخابية رافعيـن صور سيد العهد وداعميـن مرشّحيه، فنـجحوا فـي الـمحافظة على رؤوسهم وكراسيهم، وأبعدوا عنهم الـمحاسبة والعقاب، فـي إنتظار عهدٍ جديد وبارودة جديدة تتناسب مع تقلّبات موازيـن القوى.

لا نعرف إذا كان فـخامة رئيس الـجمهورية على علم بـهؤلاء الـمنافقيـن والـمتزلّـفيـن الذين ركبوا موجة العهد ليـحموا رؤوسهم ويُغطّوا ملفّاتـهم ومـخالفاتـهم وصفقاتـهم، فاستغلّوا غطاء السلطة إلى أبعد الـحدود، وسـمحوا لأنفسهم بتـحويل البلدية إلى شركة خاصة عائلية أو مزرعة فالتة، يوظّفون فيها أبناؤهم وأقاربـهم وأزلامهم، ضاربيـن عرض الـحائط بالقوانيـن الـمرعية الإجراء، لاسيما الـمادتيـن 74 من ​قانون البلديات​، و350 من قانون العقوبات.

ألا يعلم هؤلاء أنّ توظيف الأبناء فـي البلدية يُعدّ نوعاً من أنواع إستغلال السلطة كونه يؤسّـس لـحالة فساد ؟ ألـم يقرأوا القوانيـن التـي تـمنعهم من توظيف أبنائـهم ؟ أم أنّ مصالـحهم الشخصية وجشعهم فـي تكديس الثروات أهمّ من كل القوانيـن والدساتيـر ؟ وهل أصبحت البلدية فـي هذا الزمن الرديء مـملكة يرثـها الأبناء عن آبائـهم ؟

أيـن التفتيش الـمركزي ؟ أيـن ديوان الـمحاسبة ؟ وأين النائب العام الـمالـي، و​وزارة الداخلية والبلديات​ ؟ لـماذا لا يتـحرّك ​القضاء​ ويسأل كل مشتبه به، ووفقاً لقانون الإثراء غيـر الـمشروع : من أين لكَ هذا ؟ من أين أتيت بـهذه الأموال و​العقارات​ والسيارات والـمحلات والشقق فـي الساحل والـجبل وخارج البلاد ؟ من أين هذا البذخ والصرف العشوائي على الـمحاسيب والأزلام ؟

غريب أمر حكّامنا ومسؤولينا، يرفعون شعار مكافـحة الفساد على الـمنابـر والشاشات، وهُم فـي غالبــيـتـهم يُـغطّون الفاسديـن أو يشاركونـهم فسادهم.

كيف يُـمكن إستعادة الأموال الـمنهوبة، إذا بقي القضاء فـي غيبوبة، والـحكومة تُصرّف الأعمال، ونواب الأمّة صامتون ولا يُـحاسبون خوفاً على مصالـحهم الإنتخابية ؟

فـي الأيام الأولـى من إنتفاضة 17 تشرين الأول، هتف الثوار أمام مبانـي بعض البلديات، "الفساد، الفساد .. جوّا فـي البلدية"، و "كلّن يعنـي كلّن"، مُذكّرين رؤساء البلديات أنّ الشعار لايستـثـنـيـهم. لكنّ إعتـراض الثوار الـمُحِقّ على سوء إدارة مؤسّـسات ​الدولة​ وفسادها، جاء أقوى زخـماً منه تـجاه البلديات التـي يفوق حجم الفساد فـي بعضها حجمه فـي الوزارات والـمؤسّسات الـحكومية الأخرى.

يقول حسيـن حلّال، الـخبيـر فـي الشؤون البلدية، إنّ معظم رؤساء البلديات يـجهلون القانون البلدي وسُبُل الإدارة، أمّا الـجزء الأكبـر منهم "فاسدون"، ويُـضيف : "الـمشكلة الكبـرى تكمن فـي القانون والرقابة على عمل البلديات والـمسؤوليـن فيها". ويذكّر حلّال أنه كان من الـمُفتـرض وضع عمل البلديات تـحت رقابة ديوان الـمحاسبة، لكن هذا لـم يـحصل، ولو حصل لكان نصف رؤساء البلديات خلف القضبان.

صدَق من قال : عندما يأمن الـموظّف من العقاب سيقع فـي الفساد، ويسوم الفقراء سوء العذاب.