في الأيام الماضية، تكاثرت التطورات التي يشهدها ملف غاز ​البحر المتوسط​ على نحو غير مسبوق، مترافقة مع أخرى سياسية وعسكرية في الدول المعنية بشكل مباشر أو غير مباشر، من توقيع الإتفاق الإسرائيلي-القبرصي-​اليونان​ي، في اثينا يوم الخميس في 2 من الجاري، المتعلق بخط أنابيب شرق المتوسط "إيستميد" لمد أوروبا ب​الغاز​، إلى الإتفاق التركي مع حكومة الوفاق الليبية حول شرقي البحرالمتوسط، مروراً بالإجتماع الثاني لمنتدى غاز البحر المتوسط الذي عقد في القاهرة في الشهر الأخير من العام المنصرم، من دون تجاهل أهمية الزيارة التي قام بها مؤخراً الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى أنقرة، حيث اتفق مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان على التنسيق في الملف الليبي، رغم الصراع الواضح بينهما سياسياً، نظراً إلى دعم موسكو قوات قائد الجيش الوطني المشير خليفة حفتر.

البحث في تعقيدات هذا المشهد مهمة جداً، نظراً إلى أنها تكشف خفايا العديد من الملفات العالقة على مستوى المنطقة، كما أنها تسمح بقراءة ما قد يحصل في هذه الرقعة الجغرافية التي تكتسب أهمية خاصة، بعد الإكتشافات التي تم الإعلان عنها على مستوى آبار الغاز، من دون تجاهل الأهمية بالنسبة إلى ​لبنان​، الذي قد يكون أحد الدول المصدّرة للغاز في المستقبل، مع إقتراب موعد بدء التنقيب في أول بئر خلال وقت قصير.

أهميّة دوليّة

فهم تعقيدات هذا المشهد، تتطلب البحث في ما يحصل على المستوى الدولي بالنسبة إلى خطوط إمداد الغاز أو مصادره بالنسبة إلى القارّة الأوروبيّة، التي تعتبر من أبرز المستهلكين على الصعيد العالمي، حيث تسعى الولايات المتحدة إلى الدخول بوصفها أحد المصدّرين، كمنافس لروسيا التي تعتبر أهم المصادر التي تعتمد عليها القارة العجوز.

من هذا المنطلق، يمكن فهم تداعيات الأزمة الأوكرانيّة والتوتّر بين كييف وموسكو، التي دفعت الأخيرة إلى البحث عن خطوط لإمداد غازها بعيداً عن أوكرانيا، منها "نورد ستريم 2" و"تورك ستريم"، حيث أشعل الأول غضب واشنطن التي تهدّد بفرض عقوبات على الشركات العاملة في بناء هذا الخط، بينما الثاني دفع بتركيا إلى التقرّب أكثر من روسيا، رغم أنها عضو فاعل في حلف شمال الأطلسي "الناتو".

ضمن هذا السياق، يأتي الانقسام في دول الإتحاد الأوروبي، بين الدول التي تنتقدها واشنطن بسبب إعتمادها على الغاز الروسي، لا سيما فرنسا وألمانيا، وتلك المتضررة من هذا الإعتماد، وترى في التماهي مع الموقف الأميركي مصلحة إستراتيجية لها، كما تتكشف خفايا الصراع على غاز البحر المتوسط، التي من الضروري تناولها بشكل مفصل.

غاز المتوسط لعبة الصراع

بالعودة إلى ما تقدم، يمكن القول أن الولايات المتحدة لديها مصلحة أساسية في تأمين المزيد من الموارد الغازيّة للقارة الأوروبيّة، بهدف دفعها إلى تنويع مصادرها والحدّ من إعتمادها على الغاز الروسي، ومن هنا تبرز أهميّة غاز البحر المتوسط كأحد المصادر الأساسية، بعد بروز الخط الإسرائيلي–القبرصي–اليوناني، من دون تجاهل حجم ما سيقدّمه هذا المصدر بالمقارنة مع حاجات القارة العجوز، الأمر الذي لا يمكن فصله عن التوقعات التي تطرح لهذه الثروة التي تزداد يوماً بعد آخر.

في المقابل، هناك سؤال جوهري يطرح على مستوى الساحة الأوروبيّة، يتعلق بكلفة إمداد هذا الخطّ الذي ستترتّب على دولها بالمقارنة مع الفائدة منه، الأمر الذي سيؤدّي إلى إنقسام في مواقف الدول الأوروبية منه، بين من يريد الذهاب إلى الإستثمار على قاعدة تنويع المصادر ومن لا يرى ضرورة لذلك، ولهذا الإنقسام تداعيات كبيرة لا يمكن تجاهلها، تتعلق بمصير الثروة الكامنة في البلدان المعنيّة: اسرائيل، لبنان، قبرص، مصر، سوريا، التي عليها واجب تأمين الأسواق لها، بالإضافة إلى تأثيره على الصراع الأميركي-الروسي.

ما هو خط "إيست ميد"؟

مشروع خط أنابيب شرق البحر المتوسط هو مشروع الاتحاد الأوروبي ذي الاهتمام المشترك (PCI)ويتصل بخط أنابيب الغاز الطبيعي البحري-البري، الذي يربط مباشرة موارد شرق المتوسط ​​(أفروديت قبرص وليفياثان إسرائيل) باليونان عبر قبرص وكريت.

أما بالنسبة إلى الأهداف المرجوّة منه، فهيتعزيز أمن الغاز في أوروبا من خلال تنويع النظراء والطرق والمصادر، تطوير الموارد الأصليّة للاتحاد الأوروبي، مثل احتياطات الغاز البحري في جميع أنحاء قبرص واليونان، بالإضافة إلى تشجيع تطوير مركز غاز جنوب البحر المتوسط.

في الوقت الراهن، تم تصميم المشروع لنقل 10 مليارات متر مكعب سنوياً من احتياطي الغاز البحري الإسرائيلي والقبرصي إلى اليونان، بالإضافة إلى خطوط أنابيب بوسيدون وIGB، إلى إيطاليا ودول أخرى في جنوب شرق أوروبا. ويتم تطوير خط الأنابيب من قبلIGI Poseidon S.A، وهو مشروع مشترك بنسبة 50-50 ٪ بين مرفق الغاز اليوناني (DEPA) ومرفق الغاز الإيطالي إديسون.

ويتضمن هذا المشروع خط أنابيب بحري بطول 1300 كم وخط أنابيب بحري بطول 600 كم. يبدأ خط الأنابيب من اكتشافات الغاز الطبيعي الجديدة في الشرق الأوسط، تحديداً في إسرائيل وقبرص، ويتضمن الأقسام التالية:خط أنابيب بحري بطول 200 كيلومتر من إسرائيل إلى قبرص،خط أنابيب بحري بطول 700 كيلومتر يربط قبرص بكريت، خط أنابيب بحري بطول 400 كم من جزيرة كريت إلى اليونان، خط أنابيب بحري بطول 600 كيلومتر يعبر بيلوبونيس وغرب اليونان.

في شهر نيسان من العام 2017، وقع وزراء الطاقة في إيطاليا واليونان وقبرص وإسرائيل، بحضور المفوض الأوروبي ميغيل أرياسكانيتي، إعلاناً مشتركاً لإعادة تأكيد دعمهم للتنفيذ السريع للمشروع، الذي تقدر تكلفته بما يقارب 6 مليارات دولار.

وفي 2 كانون الثاني الجاري، وقع وزراء الطاقة في اليونان كوستيسهاتزيداكيس وإسرائيل يوفال شتاينيتز وقبرص ويورجوسلاكوتريبيس الاتفاق النهائي، وتهدف الدول إلى التوصل إلى قرار استثماري نهائي بحلول عام 2022، ثم إكمال خط الأنابيب بحلول عام 2025.

وللتأكيد على أهميّة هذا المشروع على مستوى الصراع العالمي، من الضروري التذكير أنه في شهر آذار من العام الماضي، شارك وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو في اجتماع ثلاثي بين قادة اليونان وقبرص وإسرائيل في القدس، لتأكيد دعم بلاده بناء خط أنابيب شرق المتوسط، كما وصف، في اجتماع مع وزير الخارجية اليوناني في العام 2018، بأنها "حدود استراتيجية مهمة" لواشنطن، التي تعمل على تعزيز علاقاتها مع "الحلفاء الديمقراطيين هناك مثل اليونان وقبرص وإسرائيل".

وفي شهر كانون الأول من العام 2019، تبنّت الولايات المتحدة قانون شراكة الطاقة والأمن لشرق المتوسط، الذي وضع اليونان وقبرص وإسرائيل في صلب الاستراتيجية الأميركية الجديدة في منطقة شرق البحر المتوسط.

على الرغم من كل ذلك، لا يزال هذا المشروع يواجه العديد من العقبات، منها أن المفوضية الأوروبية لم تقم، حتى الآن، بالتسجيل في خط الأنابيب، ولكن فقط لدراسة تستكشف جدواه، في حين أن وزير البترول والثروة المعدنية المصري طارق الملا، الدولة العضو في منتدى غاز البحر المتوسط الذي سيتم التطرق له لاحقاً، كان قد أعلن أنه يعارض نقل الغاز من شرق البحر المتوسط إلى أوروبا عبر خط أنابيب شرق المتوسط.

بالإضافة إلى ما تقدم، هناك عقبة أساسية تتعلق بتكلفة المشروع وتمويله، حيث أصرت المفوضيّة الأوروبيّة، على الرغم من ترحيبها بالاتفاق، على استكشاف المزيد من فوائد التكلفة لمختلف الخيارات، من دون تجاهل التطور الأبرز الذي يمثله الاتفاق الموقع بين أنقرة وطرابلس الغرب، نظراً إلى أنه قد يفتح الباب أمام مواجهة عسكريّة كبرى في المنطقة.