تثبت القوى السياسية اللبنانية، يوماً بعد آخر، عجزها عن التعامل مع ​الأزمة​ التي انفجرت في السابع عشر من تشرين الأول الماضي، بدليل عدم قدرتها على تقديم أيّ مبادرة قادرة على فتح الباب أمام مرحلة المعالجة، التي على ما يبدو لا تزال بعيدة، نتيجة التعامل معها بالعقليّة السابقة، التي كانت تحكم عمل أغلب الأفرقاء السياسيين.

حتى ​الساعة​، لا يبدو أن هناك من فريق يتعامل مع الأزمة خارج حسابات الربح والخسارة، بينما يدفع المواطن الثمن غالياً من لقمة عيشه، خصوصاً بعد تراجع القدرة الشرائية لراتبه، نتيجة التلاعب بسعر صرف ​الليرة اللبنانية​ مقابل ​الدولار​ الأميركي، بالإضافة إلى إرتفاع الأسعار بشكل جنوني بلا حسيب أو رقيب، من دون تجاهل الإقفال الذي لحق بالآلاف من المؤسسات، أو إضطرار بعضها إلى دفع نصف راتب أو تخفيض ساعات العمل.

أمام هذا الواقع، برز في نهاية الاسبوع الماضي مشهداً صعباً، تمثّل بالمواجهات التي تخطّت كل الحدود بين القوى ​الأمن​يّة و​المتظاهرين​، بغضّ النظر عن الإتّهامات والإتهامات المضادة التي وجّهت إلى الفريق الثاني، من إطلاق صفات "المندسّين" أو "المشاغبين" أو "المرتزقة" عليه، ففي جميع الأحوال هؤلاء مواطنون لبنانيون يواجهون مواطنين لبنانيين آخرين، وظيفتهم حفظ الأمن وحماية الأملاك العامة والخاصة ومنع الإعتداء عليها، وبالتالي، الجانبان يدفعان ثمن عجز القوى السّياسية، على ضفتي قوى الثامن والرابع عشر من آذار، الذي قد يقود إلى المزيد من المواجهات في المرحلة المقبلة.

بناء على ما تقدم، على القوى السّياسية التي لا تزال مصرّة على تصدّر المشهد الذهاب إلى تقديم الحلول، لا سيّما قوى الثامن من آذار التي سمّت رئيس ​الحكومة​ المكلّف حسّان دياب، نظراً إلى أنها مسؤولة عن تسهيل مهمّته بعيداً عن لعبة ​المحاصصة​ والصراع على الحقائب الوزاريّة، خصوصاً أنّ الأزمة باتت في مكان آخر يهدّد الأمن الإجتماعي، وهي مرشحة للتفاعل أكثر بحال التأخّر أكثر في ​تشكيل الحكومة​، بينما على قوى الرابع عشر من آذار، بدل إنتظار فشل خصومها، المبادرة إلى المساعدة، على الأقلّ عبر التوقّف عن رمي الإتّهامات، لأنّ الهيكل عندما ينهار لن يوفّر أحداً، بل سيسقط على رأس الجميع.

في الأزمات، تذهب مختلف دول العالم إلى خيار الحكومة الإئتلافيّة، أو ما يتعارف عليه في الحالة اللبنانية بحكومات الوحدة الوطنيّة، إلا أنّ هذا الخيار قد يبدو بعيداً عن الواقع، نظراً إلى أنّ التجارب السابقة على هذا الصعيد غير مشجّعة، وبالتالي يجب الإنتقال إلى البحث عن خيار آخر، قد يكون تركه لدياب بتشكيل الحكومة التي يراها مناسبة هو الأفضل والأقل ضرراً، لا سيّما بعد أن أظهر إصراراً على عدم تقديم أيّ تنازل، مثل رفع عدد أعضاء الحكومة إلى 20 بدل 18، الأمر الذي تطرح حوله أيضاً علامات الإستفهام، لأنّ المطلوب هو الحل مهما كان شكله.

في الجانب المقابل، المجموعات الفاعلة في ​الحراك الشعبي​ لم تعد خارج إطار المسؤوليّة، فهي باتت جزءاً من المشهد السياسي في البلاد، تستطيع القبول والرفض والعرقلة والتسهيل، وفي حين قد لا يكون مطلوباً منها تقديم طوق النجاة إلى القوى السّياسية التي تثبت عجزها، عليها المسارعة للبدء بالتفكير في كيفيّة حماية الإنتفاضة من الذهاب إلى الخيار ​العنف​ي، الذي ستدفع ثمنه قبل غيرها، نظراً إلى أنّ الفوضى هي الملعب الذي قد تفضّله الأحزاب السّياسية، خصوصاً تلك التي خبرت مرحلة الحرب سابقاً، كما عليها الإنتقال إلى مرحلة ​البناء​ عبر تقديم البرامج التي ترى أنّها كفيلة بالمعالجة، بدل إنتظار ما قد يصدر عن القوى السّياسية.

وإلى جانب القوى التقليديّة ومجموعات الحراك الشعبي، هناك مسؤوليّة تقع على عاتق القوى الأمنيّة والعسكريّة، اذ أن الأداء الأمني مؤخراً يطرح علامات استفهام كبيرة، أهمّها حول سبب الانتظار لساعات قبل التدخّل الحاسم لوقف العنف البعيد كل البعد عن المطالب الشعبيّة، فهل المطلوب سقوط ​ضحايا​ في الشارع لإدراك حجم المخاطر التي يعيشها البلد؟.

في المحصّلة، المشهد العام لا يبشّر بالخير في ظل تصاعد حدة المواجهات في الشارع، بينما الغالبيّة الساحقة من المواطنين باتت تريد حلاً بأسرع وقت ممكن، بغض النظر عن شكله أو الجهّة التي ستتقدّم به، فالمعركة بالنسبة لهؤلاء ليست سياسية بل معيشيّة بالدرجة الأولى.