العودة إلى التاريخ والبحث المعمق بقرارات القادة مع أحداث تاريخية وتفاعل الشعوب معها يعتبر لازمة ضرورية للارتكاز عليها والانطلاق منها باعتبارها ذخيرة العاقبة وزاد الفكر ورسوخاً بالعقيدة.

في العام 1967 انعقدت في الخرطوم أول قمة عربية بُعيد نكسة عسكرية أصيبت بها الأمة العربية بالهزيمة جراء احتلال العدو الإسرائيلي لسيناء وغزة و​الضفة الغربية​ بالإضافة إلى ​الجولان​ السوري.

وفي بداية انعقاد القمة وقف الرئيس ​السوداني​ آنذاك إسماعيل الأزهري لإلقاء كلمة بالحضور مستهلاً كلمته بجملته الشهيرة باللهجة السودانية قائلاً: «يا أبطال الهروبة» وهو كان يقصد يا أبطال ​العروبة​ حينها ساد قاعة المؤتمر صمت مطبق واعتقد الحضور أن خطاب إسماعيل الأزهري يتضمن هجوماً لاذعاً على هروب العرب من المواجهة مع العدو الإسرائيلي بيد أن إسماعيل الأزهري أعاد جملته الشهيرة على مسامع الحضور قائلاً: «يا أبطال الهروبة» حينها فهم الرؤساء والملوك أنها اللهجة السودانية وفي تلك اللحظة ساد القاعة حالة من ​الضحك​ بين الملوك والرؤساء والحضور فتوقف الرئيس إسماعيل الأزهري عن إلقاء كلمة الترحيب مستغرباً ذاك الضحك حينها تقدم الزعيم ​جمال عبد الناصر​ ليقول وبفكاهته المعهودة «والنبي الراجل بيتكلم صح».

نذكّر بأن ​الجمهورية العربية السورية​ لم تحضر قمة الخرطوم حينها داعية إلى مقاومة شعبية عربية واسعة ضد العدو الإسرائيلي لتحرير الأرض عوضاً عن قرارات لا تسمن ولا تغني عن تحقيق التحرير.

ورغم اشتهار قمة الخرطوم باللاءات الثلاث «لا صلح لا تفاوض لا اعتراف بإسرائيل» وبين الهرب والعرب ما فارق اللكنة واللهجة، فإن الهرب من مواجهة العدو الإسرائيلي أضحى ملازماً لمعظم العرب وخصوصاً أولئك الذين لا يفقهون معنى مقاومة احتلال الأرض ولا معنى التضحية من أجل الحصول على ​الاستقلال​ الوطني.

وعلى سبيل المقارنة بين الهرب باللكنة السودانية والعرب بلغة الضاد لا بد لنا من العودة إلى التاريخ لإجراء بحث معمق في تاريخ عرب الهرب، أولئك الذين حصلوا استقلال بلادهم كهدية مهداة ومقدمة من قبل المنتدب أو المحتل مقابل اتفاقيات ومساومات سرية جرت على حساب ارتهان السيادة الوطنية ومقدرات وثروات تلك البلدان لمصلحة المنتدب أو المحتل ومن دون أي تضحية وبلا مقاومة ضد المحتل ما جعل الزعماء والمشايخ والأمراء والملوك الذين نالوا استقلال بلادهم عبارة عن نواطير حراسة على ثروات بلدانهم ومن ثم تجييرها لمصلحة المحتل والمنتدب صاحب هدية الاستقلال بمعنى آخر فإن جلاء المحتل عن الأرض استبدل باحتلال لثروات البلد المستقل لكن عن بُعد.

أولئك هم ​دول الخليج​ العربي يضاف إليهم ​الأردن​ مملكة الهدية البريطانية الذين فضلوا الهرب من المواجهة والتضحية في سبيل التحرير وتحقيق الكرامة الوطنية ولاحقاً لحق بهم نظام الرئيس المصري أنور السادات مفضلاً مبدأ الهرب من مواجهة العدو عبر إبرام اتفاقية ​كامب ديفيد​ المشؤومة عام 1979 مع إسرائيل، وبتلك الاتفاقية قضى أنور السادات على إرث الزعيم جمال عبد الناصر القائل: «إن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة».

هرب نظام السادات من المواجهة ضد العدو الإسرائيلي وأخرج بلد القومية العربية من معادلة الصراع التاريخي مع عدو الأمة إسرائيل تاركاً سورية قلب العروبة، وحدها تقاوم عدو الأمة بالميدان في طعنة تاريخية لقلب العرب سورية وتحولت معها مصر إلى بلد الهرب أما سورية بمقاومتها وتضحياتها وصمودها فقد ترجمت مقولة جمال عبد الناصر ورسخت مفهوم الدفاع عن السيادة الوطنية على أراضيها بالمقاومة رافضة كل أنواع الاتفاقات والمساومات محققة بذلك زعامة عرب المواجهة.

وبالعودة إلى الدول والشعوب الذين رفضوا هدية المنتدب أو المحتل فلا بد لنا من تذكر تاريخ الجزائر ذاك البلد العربي صاحب لقب المليون شهيد الذي قدم صورة نقية في التضحية بخيرة شبابه لمقاومة المحتل الفرنسي حتى تحقيق التحرير ونيل استقلاله.

أما اليمن فقد قاوم المنتدب الانكليزي ونجح في دحره من الجنوب ولاحقاً من كل اليمن مسطراً استقلاله بالدماء اليمنية.

وبالانتقال إلى العراق فإن ثورة 1920 التي شهدت مقاومة شعبية ضارية ضد المنتدب الانكليزي وزبانيته استطاعت وبدماء الثوار العراقيين من تسطير ملحمة عربية في طرد المنتدب البريطاني من العراق والحصول على استقلال البلاد.

ولسورية، قلب العروبة النابض، فإن ثورتها ضد المحتل الفرنسي أفرد لها التاريخ صفحات مجيدة من المقاومة والنضال والتضحية في سبيل تحريرها من الانتداب الفرنسي بعد إجبارها على جلاء قواتها وأضحت سورية حرة محررة وطن العرب المقاوم ضد المحتل.

إن سورية المقاومة لم تعرف الهرب من المواجهة يوماً ولو تخلى عنها كل عرب «الهرب»، وللإنصاف فإن المقاومة السورية ضد الفرنسي لم تسهم في جلاء الفرنسي عن سورية فقط إنما أسهمت إلى حد التوءمة في إجبار المنتدب الفرنسي بالجلاء أيضاً عن لبنان ولذلك يتزامن الاحتفال بعيد الجلاء في كل من سورية ولبنان بذات اليوم والتاريخ.

في لبنان فإن المقاومة الشريفة قدمت دماء خيرة الشباب المقاوم على مذبح تحرير الوطن اللبناني من المحتل الإسرائيلي وألحقت الهزيمة بعدو الأمة في 2000 وأجبرته على الانسحاب من لبنان من دون قيد أو شرط محققة بذلك أول انتصار عربي حقيقي على العدو وألحقت انتصارها بانتصار آخر استراتيجي وقهرت الجيش الذي لا يقهر في عام 2006 ما أسهم بإدخال لبنان ضمن منظومة عرب المواجهة محققة توازن القوة والردع ضد العدو الإسرائيلي.

إذا كان التاريخ عبارة عن استمرارية وامتداد فإن الشعوب والدول بحاجة للعودة دائماً إلى حقبات التاريخ لأجل الحفاظ على الإرث وتنوير الفكر وذلك لاستنباط أحكام المستقبل لأجيالنا.

مؤخراً كثر الحديث عما يسمى بصفقة القرن الأميركية الصهيونية، وجاء ذاك بالتزامن مع أمرين لافتين الأول توقيع وزير خارجية العدو الإسرائيلي ارييه درعي معلناً السماح للإسرائيليين بزيارة السعودية بلاد الحرمين.

والأمر الثاني هو مشاركة الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي السعودي محمد العيس الاحتفال بذكرى الهولوكوست المزعومة وإقامة صلاة الغائب عن أرواح يهود الهولوكوست، وإذا ما قارنا الأمرين مع تصريحات رئيس وزراء العدو الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي نوه بعلاقات جيدة مع عرب «هرب» الخليج إضافة إلى استقباله في مسقط والبحرين والتعاون القائم مع دولة الإمارات، والتنسيق الإسرائيلي مع دولة قطر تحت عنوان ضبط الأمور في غزة، يتبين لنا أن أولئك حقاً هم عرب «الهرب».

نقول: إن الصراع يدور اليوم بين عرب الهرب وهم دول الاستقلال المزيف المهدى للنواطير، وبين عرب المواجهة في بلاد عرب بلاد الشام أو سورية الكبرى المؤلفة من سورية ولبنان والعراق وفلسطين والأردن مضافاً إليهم اليمن، جميعهم في محور المقاومة مدعوماً من سورية العروبة والجمهورية الإسلامية في إيران التي أثبتت التزامها قولاً وفعلاً بالمواجهة وبالدفاع عن الحق العربي لتحرير الأرض العربية من الأميركي المحتل للثروات العربية وبتحرير فلسطين من الاحتلال الإسرائيلي أكثر بكثير من عرب «الهروبة».

إن الحديث عن صفقة القرن لا يعدو كونه حديثاً من خارج سياق التاريخ ولا يمكن للتاريخ قبول أي حدث من خارج الامتداد التاريخي وتاريخ وبلاد سورية الكبرى بقيادة الجمهورية العربية السورية الذي بقي مرجعاً ثابتاً في مقاومة المحتل وتحقيق التحرير مهما طال الزمن مزوداً بالعزة والكرامة العربية الصحيحة.

وحين نتحدث عن الكرامة العربية فلا بد أن يتبادر إلى أذهاننا ذكر سورية تاريخ قلب العروبة النابض.

سورية التي قالت إن الذي بيني وبين إخوتي لمختلف جداً فإن أكلوا لحمي عوّفت لحومهم وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجداً هذه هي سورية العروبة.

أما لأمة «الهروبة» نقول:

لا خير بأمة سيوفها بيد جبنائها وأموالها بيد جلاديها وأقلامها بيد منافقيها وإعلامها يروج لمغتصب مقدساتها وثرواتها وحقوقها.