لطالما اعتُمد الحمام الزَّاجل، في العُصور القديمة، لنقل الرَّسائل من منطقةٍ إِلى أُخرى، وقد أَدَّى هذا النَّوع من الطُّيور "دوره" على أَكمل وجهٍ، لأَنَّ الحيوان لا يُتقن "فُنون ​الفساد​" الَّتي يُمارسها البشر... لا بل إِنَّه أَكثر التزامًا وصدقيَّةً!.

وأَمَّا اليوم، وعلى رُغم التَّطوُّر الهائِل على المُستوى التِّكنولوجيّ عُمومًا، وفي مجال التَّواصل والبريد المُسمَّى "حديثًا" في شكلٍ خاصّ، فالفساد يُفسد كلَّ منفعةٍ للانسان، لا بل ويحرمه من خدماتٍ جمَّى، قضى العُلماء والمُكتشفون سنواتٍ طويلةً يُحضِّرون لتوفيرها... ولن أَدخل ههُنا في ملفِّ الفساد الإِداريِّ في أَقبية البريد في لُبنان، لأَنَّ ذلك شأْنٌ آخر... بل سأَحصر موضوعي في جدوى هذه الخدمة، في مُقابل ما يتكبَّده المُواطن من مصاريف يدفعها من جيبه، لقاء تلك المُسمَّاة "خدمات" بريديَّة!.

والأَنكى مِن كُلِّ ذلك أَنَّ اللُّبنانيَّ مُلزَم بإِجراء مُعاملاته عبر شركة الـ"​ليبان بوست​"، لتكتمل مشهديَّة الوقوف في الصَّفِّ لدفع الأَموال، وإذَّاك تكتمل مراسم العبث بوقت النَّاس، فيما الوقتُ مِن ذهَبٍ...

لقد تدخَّلت الطَّبقة السِّياسيَّة الفاسدة والسَّاقطة في الشَّارع حتَّى في بريدِ النَّاس، فأَلزمتهم تسديد الكثير من فواتيرهم بواسطة شركة "ليبان بوست". فضبط السَّير وتقديم ميزانيَّات الشَّركات إِلى ​وزارة المال​، وتسجيل الطُّلاَّب في الجامعة اللُّبنانيَّة الوطنيَّة والكثير الكثير من عمليَّات دفع المال تتمُّ بواسطة هذه الشَّركة الَّتي لم تقُم بأَدنى مجهودٍ لتسهيل أُمور المواطنين. ولماذا تُبادر إِلى ذلك، ما دام بعض السَّاسة الفاسدين، يستفيدون من كلِّ مشروعٍ وقرارٍ يبتزُّ النَّاس ماليًّا كما وفي حاجاتهم اليوميَّة، عبر خلق مُؤَسَّساتٍ رديفةٍ تتقاسم مغانم الفساد مع مَن يوفِّرون لها الغطاء الشَّرعيَّ، وهُم بنفسهِم أَوجدوا الفساد عُمُومًا ليسلبوا معًا ما بقي في جيب الأَرملة من فلوسٍ!...

لذا فثمَّة مجالاتٌ كثيرةٌ لإِهدار أَموال النَّاس كما وخزينة الدَّولة، ما ينسحب بالتَّالي على الكثير من المُؤَسَّسات المُصابة بفيروس "كورونا الفساد" المُستَجدِّ...

تجارب مَريرة...

قد ينشب خلافٌ مع جارٍ لك، على أَمرٍ مُشتركٍ، في المبنى الَّذي يقطن فيه كلاكُما، فتُرسِل إِليه -وَفق الوسائل القانونيَّة والأُصول- إِنذارًا عبر البريد المضمون مع إِشعارٍ مُفترَضٍ بِالتَّسلُّم. فتأْخذ تنتظر أَنْ تأْتيك الورقة المُسمَّكة الزَّهريَّة. غير أَنَّ ظنَّك يخيب، إذ تُعادُ الورقة إِليك، مع إِبلاغك أَنَّ جارك القابع في منزله ليل-نهارٍ، أَكثر من مُكوث "الهمِّ" على القلب، لم يجده ساعي البريد في المنزل مرارًا وتكرارًا!...

وقد تُرسِل بريدًا مضمونًا إِلى عُنوان شركة تأْمين "نصبت عليك" وتقاعسَتْ في إِعطائك بدل عطلٍ وضررٍ لحق بسيَّارتك، بسبب حادثٍ أَنت براءٌ منه بنسبة 75 في المئة... ومع أَنَّ عُنوان الشَّركة واضحٌ، والحقَّ المُطالَب به واضحٌ، فأَمَّا الجواب حين تتَّصل للاستفسار عن بريدك "المضمون" هذا، فوحده غير واضح!. إِذ بعد تحويلٍ هاتفيٍّ من "هالكٍ" إِلى "مالكٍ" إِلى "قبَّاض الأَرواح" ضمن جيشٍ مِن المُوظَّفين في شركة البريد (ليبان بوست)، يأْتيك التَّوضيح المُشبَع بالكثير من "التَّذاكي":

-إِنَّ الشَّركة قد أَوصت بوضع بريدها حصرًا في صندوقها البريديِّ...

*لكنَّني تقدَّمت بطلب إِرساله بواسطة البريد المضمون مع إِشعارٍ بالاستلام، وعلى هذا الأساس دفعْتُ الرُّسوم المُتوجِّبَة عليَّ...

-لحظة لأَسأَل... (وبعد بضع دقائق): قالوا لي عليك التَّقدُّم بطلبٍ آخر، لإِيصال البريد المضمون...

*لماذا لم تقولوا لي ذلك حين دفعتُ رسوم البريد المضمون؟.

- لا فكرة لديَّ...

*هل إِذا تقدَّمتُ بطلبٍ جديدٍ أَضمن وصول البريد، أَم عساه يمكث في الصُّندوق شهرًا آخر، حتَّى تنتهي محكوميَّته، فيُعاد إِليَّ بخفَّي حُنين؟...

- (مُجدَّدًا) لحظة لأَسأَل... وبعد دقائق): لا شيءَ مضمونٌ...

لقد أَقنعتني الجُملة الأَخيرة: في بلد الفساد لا شيء مضمونٌ...

لذا، فقد تُرسل بريدك هذه المرَّة إِلى شركةٍ، تعاقدت معها للإِتيان بمُدبِّرة منزلٍ تهتمُّ بوالديك العجوزين، وقد أَخلَّت تلك الشَّركة معك، بعد سحب القيمة الماديَّة المطلوبة بموجب الاتِّفاق بينكما. وهُنا يضيع المُستند في "أَقبية ليبان بوست" ويُحتَجَب عن الأَنظار مع الورقة الزَّهريَّة أَيضًا، ويُعدُّ "الكتاب المضمون" في عداد المفقودين...

إِنَّنا نتكلَّم ههُنا، عن مُستنداتٍ يُفترض أَن تندرج في الخانة القانونيَّة المُوثَّقة، وبالتَّالي فإِنَّ التَّلاعُب بها، وعدم إِيصالها وفق الأُصول، بسبب الإِهمال الوظيفيِّ أَم بسبب "إِكراميَّة" المُوظَّف... يجعل المُخالف يرتكب جُنحة تعطيل عمل القانون، ومن دون أَن يعرف رُبَّما، خطورة ما يقوم به!... ويُصبح هذا التَّعطيل إِذَّاك، إِعاقةً لأَوَّل مسارٍ في درب حلِّ الخلافات وَفق المسار الصَّحيح!.

ولكلِّ هذه الأَسباب المُوجبة... أَيُّها السَّادة، جئتُ أَتقدَّم منكم، وأَنا بكامل قواي العقليَّة... بطلب إِعادة الحمام الزَّاجل إِلى العمل، والاستعاضة به عن جيشكم العرمرم من المُوظَّفين، المُتحلِّين بـ"ضميرٍ مهنيٍّ" تآكلته حيتان الفساد، ولم يسلم منه لا لحمٌ ولا عظمٌ!.